قوله تعالى : { ولْيَسْتَعْفِفِ الّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتّى يُغنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ } ، الآية :[ 33 ] :
أمرهم بالتعفف - عند تعذر النكاح - عما حرمه الله تعالى ، وذلك على الوجوب .
وفيه دليل على أن إباحة الاستمتاع موقوفة على النكاح ، ولذلك يحرم ما عداه ، ولا يفهم منه التحريم بملك اليمين ، لأن من لا يقدر على النكاح لعدم المال لا يقدر على شراء الجارية غالباً . وفيه دليل على بطلان نكاح المتعة ، ودليل على تحريم الاستمناء{[1573]} .
قوله تعالى : { فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُم فِيهِمْ خَيراً } : روي عن عطاء أنه قال : ما أراه إلا واجباً ، وهو قول عمر بن دينار .
واعلم أن إيجاب ذلك لا محمل له إلا التوقيف ، وإلا فإجبار المالك على إزالة ملكه لا وجه له ، ولا يقتضيه أصل الشرع وقياسه ، لأن الكتابة بعيدة عن قياس الأصول ، وتقتضي الأصول بطلانها ، فيشبه أن يكون قوله : { فكَاتِبوهُم إن عَلِمتُم فِيهِم خَيراً } ، رخصة في الكتابة رفعاً للحرج المتوهم ، مثل قوله تعالى : { وإذا حَلَلْتُم فاصْطَادُوا{[1574]} } ، ومثل قوله : { فإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فانْتَشِرُوا في الأَرْضِ وابْتًغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ{[1575]} } ، وكل ذلك رفع للحرج .
وكذلك ، إذا قلنا الأصل امتناع الكتابة ، إلا أن الشرع أرخص فيها وجوزها بطريق الرخصة ، فمطلق الأمر فيه لا يظهر منه الوجوب .
ولأن تعليقها بابتغاء العبد مما يدل على أنها غير واجبة ، ولو وجبت لوجبت حقاً للشرع ، غير متعلقة بابتغاء العبد .
والذي يخالف في ذلك وينصر مذهب عطاء يقول : إنما احتمل الشرع مخالفة قياس القواعد ابتغاء تحصيل العتق الذي هو حق الله تعالى{[1576]} ، والمقصود به تفريغ العبد بحريته لطاعة الله تعالى ، بعد أن كان كثيراً من أوقاته لغير حق الله عز وجل .
وإذا ثبت أن الأمر كذلك ، فقد وضع الله تعالى ذريعة لتحصيل هذه المكرمة شرعاً بلفظ الوجوب .
فمخالفة قياس الأصول كانت لتعظيم أمر الحرية ، فمن أين مبعث الوجوب ؟
نعم في قوله تعالى : { وإذَا حَلَلْتُم فاصْطَادُوا } ، و { فإذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فانْتَشِرُوا } ، كل ذلك لغرض غير غرض الشهادة وغير مقصود الشرع ، وهاهنا هذا فيه تحصيل الحرية ، فاحتمل فيه ما احتمل من مخالفة قياس الأصول لهذا المعنى ، حتى جعل له في الزكاة قسط ، ولم يجعل ذلك إلا ليتوصل به إلى الحرية ، وأوجب كثير من العلماء فيه التأجيل إرفاقاً بالعبد ، فكان هذا الإرفاق مقصود الشرع بلفظ الأمر الدال على الوجوب ، فما الذي منع من وجوبه ؟
يبقى أن يقال : ولو كان واجباً لما توقف على ابتغاء العبد .
قالوا : إذا لم يتمكن العبد ، فإجباره على الإضرار بنفسه لا وجه له ، وإن كان العبد قادراً على الاكتساب ، فلا شك في أنه لا يقصر في حق نفسه في سعي الكتابة ، فبنى الشرع على الغالب ، ونظيره أن الشرع أوجب الطهارة لدخولها في محاسن الأخلاق ، وتحقيقاً لمقصود النظافة والوضاءة وإحياء لمراسم العبادة ، وعلم الشرع أن إيجابها عند تغيير الأكوان يجر حرجاً ، فوضع مراسم تفي بالمقصود . . كذلك هاهنا .
وهذا الذي ذكروه لا وجه له ، فإن الترغيب فيه ليزيل عن القلوب ما فيها من منافاة قياس الأصول ، ولو وجبت الكتابة لوجبت لمقصودها ، وهو العتق ، كالطهارة لما وجبت للصلاة ، والعتق لا يجب بالإجماع ، ولا يتحتم بالاتفاق .
وقولهم إنها أوجبت ذريعة فضرب من الهذيان ، فإن السيد قادر على استكساب العبد دون الكتابة ، فليس يتجدد له بالكتابة حق{[1577]} ، وفيه إزالة ملكه من غير أن يحصل على مقابل له ، فهذا تمام ما يستدل به على نفس الوجوب .
ثم قال تعالى : { وآتُوهُم مِنْ مَالِ اللهِ الّذي آتاكُم } ، الآية :[ 33 ] : قال الشافعي : ثم أمر من يكاتب بالإيتاء ، ولا يتصور هذا الإيتاء إلا من جهة حط شيء ، ولا يمكن حمله على الزكاة ، فإن السيد لا يجب عليه أن يفرق الزكاة إلى عبده إجماعاً .
ولا شك أن ظاهر اللفظ لا يقتضي الحط ، لأنه ليس بإيتاء للمال ، وإنما يدل عليه من حيث المعنى ، لأن قوله : { مِنْ مَالِ اللهِ الّذي آتاكُم } ، لا بد أن يحمل على ملك تجدد بعد الكتابة ، وصار مالاً مستحقاً للسيد ، فمن هذا الوجه حسن إطلاق هذا اللفظ عليه .
وقال إسماعيل بن إسحاق في الرد على الشافعي : كيف تكون الكتابة ندباً والإيتاء واجباً ؟ وإذا تبرع به لزمه أحكامه وتوابعه والقضايا المتعلقة به ؟ ومعلوم أن النكاح غير واجب ، وإذا نكح وجب فيه أحكام لها ، وإذا طلق فلها المتعة واجبة على الزوج .
ومما ذكر أن إطلاق مال الله تعالى لا يقتضي إلا الزكاة ، ومال الله تعالى في عرف الشرع لا يفهم منه إلا الزكاة ، وما عداه لا يضاف إلى الله تعالى بحكم الإطلاق ، وقد قسم الله تعالى الحقوق إلى ما يضاف إلى الله عز وجل ، وإلى ما يضاف إلى الآدمي ، وإن كان الكل حقاً لله تعالى .
والجواب أن هذا لما وجب بحق الله تعالى ، ولغرض الحرية ، وحسن أن يقال : مال الله تعالى ، لأنه قصد به وجه الله عز وجل وتحصيل ثوابه .
وربما قالوا : إن السيد لا يستحق على المكاتب مالاً ، حتى يصح أن يقال في الحط ، إنه مال آتاه السيد ، إنما كان مستحقاً له ، فأما ما ليس مستحقاً له فلا يقال فيه توهم ما يملكه ويستحقه ، فإذا لم يكن دين المكاتب مستحقاً عليه ، فمن أي وجه يوصف السيد بأنه آتاه مالاً ، وما آتاه شيئاً ملكه ، ولا شيئاً استحقه .
ويجاب عنه بأنه يجوز أن يطلق ذلك ، إذا كان المال ينساق إليه ، فكأنه آتاه ماله من حيث إنه ينساق إليه .
وبالجملة ، قوله : { وآتوهُم من مالِ اللهِ الذِي آتاكُم } : مجاز في الحط من وجوه بينة وحقيقة في الزكاة ، وقوله : { فَكَاتِبُوهُم إنْ عَلِمْتُم فِيهِم خَيْراً وآتُوهم } ، حقيقة أنه خطاب للسادة الذين يكاتبون ، مع أنه يجوز أن يحمل على وجه آخر بطريق المجاز ، فلم يسلم كل واحد من المحملين على مجاز ، فإن كان كذلك ، فلا يظهر مذهب الشافعي من حيث التعلق بالظاهر ، ويتجه للشافعي أن يقول : إيتاء المكاتب الصدقات فهم من قوله تعالى : { وفي الرِّقَابِ } ، فهذا لا بد أن يكون له فائدة زائدة ، تشهد له أن ما آتاه الواحد منا ، يجب أن يكون على وجه إذا حصل عند المعطى يتصرف فيه ، ولم يحصل للسيد عليه بدلاً يستحق الصفة بأنه من مال الله الذي آتاه إياه ، ولو كان الإيتاء واجباً ، لكان وجوبه متعلقاً بالعبد ، ويكون العبد هو الموجب وهو المسقط وذلك مستحيل ، لأنه إذا كان العبد يوجبه وهو بعينه يسقطه ، استحال وجوبه ، لتنافي الإيجاب والإسقاط{[1578]} .
وبالجملة ، ما صار مستحق الإسقاط فحكمه أن يسقط ، ولا نعرف في مسائل الشرع مسألة أعوص على أصحاب الشافعي من مسألة الإيتاء ، ولا معتمد لهم فيها إلا آثار الصحابة ، وهي معتمدة قوية ذكرناها في كتاب المصنف في الروايات{[1579]} .
واعلم أن الكتابة من الأسماء الشرعية ، فإنها على الوجه الذي ثبت في الشريعة لم تكن معلومة ، فحل ذلك محل الصلاة والصيام .
ثم اختلفوا بعد ذلك ، فمنهم من قال : يعقل من ظاهرها التأجيل : إذا لم يكن شرطاً فيها لم تكن كتابة ، وقال بعضهم : بل لا يعقل ذلك من الظاهر ، وهذا أظهر ، فإن الشيء قد يُكتب ولا تأجيل فيه ، كما قد يكتب وهناك تأجيل ، فالظاهر لا يدل على ذلك ، وقول من يقول إنها تجوز حالة ، وقول من يقول لا تجوز إلا مؤجلة أو منجسة موقوف على الدليل ، لأن الظاهر لا يشهد بأحد هذه الوجوه .
واختلفوا في صورة الكتابة ، فقال بعضهم : يكفي أن يكاتبه على دراهم معدودة فيعتق بالآداء في وقته ، وقال بعضهم : بل لا بد أن يقول : فإذا أديته إلي فأنت حر ، ليجمع بين العقد وبين تعليق الحرية بالصفة ، لأن عنده أن العقد بينه وبين السيد لا يصح ، فتحريره له تعلق بصفة تصح ، فلا بد من ضم ذلك إليه .
ولم يختلفوا في أن ذلك رخصة ، لأنا لو خلينا العقل ، لكان يبطل ، لأنه أزال ملكه بملكه ، إذ الذي تحصل في يده ملك للمولى ، لكنه بعقد الكتابة جعل لما يحتوي عليه حكم مخصوص ، لم يبلغ حد الملك ، ولا وقف على الحد الذي كان وهو رقيق خالص .
وأحكام الكتابة مبينة في مسائل الفقه .
قوله تعالى : { وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُم عَلَى البِغَاء إنْ أَرَدْنَ تَحَصناً } ، الآية :[ 33 ] : روي عن جابر في سبب نزول الآية ، أن عبدالله بن أبي بن سلول كانت له جارية يكرهها على الزنا{[1580]} .
والعبرة بمطلق اللفظ ، فتدل الآية بمطلقها على تحريم الإكراه على الزنا ، وعلى تحريم أخذ البدل ، وهو المراد بنهيه صلى الله عليه وسلم عن مهر البغي ، وتدل على أن الإكراه يصح في الزنا فيما يحصنها ، لأنه مفعول فيها ، فعلى كل الأقاويل يجوز أن تكره عليه ، ويدل على أنها إذا أكرهت فلا إثم عليها ، فإن الله تعالى قال : { فإنَ اللهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ، الآية :[ 33 ] .
فإن قيل : فإذا لم يكن عليها إثم لمكان الإكراه ، فما الذي يغفر ؟ فجوابها أن يقول : لما كان لولا الإكراه لكان عليها إثم في ذلك ، زال الإثم لمكان الإكراه ، وبين أن دخول الإكراه فيه هو الذي أزال عقابه ، ولذلك ألحقه بباب ما يغفر ، وهذا كما قال الله سبحانه في تناوله الميتة بلا إثم للمضطر : { فإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيم } .
{ إنْ أَرَدْنَ تَحَصناً } : إنما ذكر تصوير الإكراه ، لأن الإكراه لا يتصور إلا مع بذلها نفسها ، فذكر إرادة التحصن تصوير الإكراه .
قوله تعالى : { وإذَا دُعُوا إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُم إذَا فَرِيقٌ مِنْهُم مُعْرِضُون } ، الآية :[ 48 ] : فيه دليل على أن من ادعى على غيره حقاً ودعاه إلى الحاكم ، وجبت عليه إجابته والمسير معه إليه ، وعلى الحاكم أن يعد به عليه .