قوله تعالى : { سمّاعُونَ لِلكّذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ } الآية [ 42 ] : أصل السحت الاستئصال ، يقال أسحته إسحاتاً إذا استأصله وأذهبه .
قال الله تعالى : { فَيُسحِتَكُم بِعَذَابٍ{[1184]} } : أي يستأصلكم ، ويقال أسحت ماله إذا أفسده ، فسمى الحرام سحتاً لأنه لا بركه لأهله فيه ، ويهلك به صاحبه هلاك الاستئصال ، فأخذ الرشوة على الحكم غاية المحظور من الرشوة ، فإنه يجب عليه إظهار الحق فيأخذ الرشوة ، ومن أجله منع الشافعي الصلح على الإنكار ، لأن الذي ينكر إذا جعل القول قوله ، فكأنه بما يبذله من المال يبغي رفع الظلم عن نفسه ، فكان كالرشوة على فعل واجب أو رفع ظلمه . ومن هذا القبيل أن يستشفع به إلى السلطان من يتقي شر السلطان ، فيستشفع له على رشوة يأخذها منه . ويقرب من هذا أخذ القاضي الهدية ، إذا كان لا يهدى إليه من قبل .
فالارتشاء على الحكم ، هو الذي ورد فيه اللعن على الراشي والمرتشى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والرشوة هي التي دعت اليهود إلى كتمان ما أنزل الله تعالى من نعوت نبينا على الأنبياء المرسلين ، فإنهم آثروا حظهم من الدنيا على اتباعه ، فكتموا ما أنزل الله تعالى من نعوته ، بعد أن كانوا أغروا به من آبائهم وأبنائهم ، وجحدوا بألسنتهم ما استيقنته أنفسهم ظلماً وعتواً ، فأدّاهم شؤم الارتشاء إلى الكفر بما أنزل الله تعالى ، فصاروا إلى محاربة الله ورسوله وعذاب الأبد .
قوله تعالى : { فإنْ جَاؤُوكَ فاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عنهُم } الآية [ 42 ] :
وقد اختلف العلماء فيه : فقال قائلون : يتخير الإمام في حقهم : إن شاء حكم بينهم ، وإن شاء أعرض عنهم وردهم إلى دينهم . وقال قائلون : التخيير منسوخ ، والقولان محكيان عن الشافعي . وقال ابن عباس : آيتان نسختا من المائدة : آية القلائد ، وقوله تعالى : { فاحكُم بينهُم أو أعرض عَنهم } .
أما القلائد ، فنسخها الأمر بقتل المشركين حيث كانوا ، وأي شهر كانوا ، وأما الأخرى فنسخت بقوله تعالى : { وأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللهُ{[1185]} } .
ولا يقول ابن عباس إنه نسخ ذلك من طريق الرأي ، فإن مدركه التوقيف والعلم بالتواريخ ، إلا أنه يقال : يجوز أن يكون قد أخطأ وغلط في الذي ادّعاه من التوقيف ، ولم يكن طريقة النسخ ، وإذ قال الصحابي أو التابعي كذا منسوخ بكذا ، فلا يقبل ذلك دون أن ينظر فيه .
ويجوز أن يكون معنى قوله : { وأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللهُ } : المنع من اتباع آرائهم فيما قد نسخ ، ولا يمنع ذلك من جواز الإعراض عنهم ، مثل منوب الجزية عليهم ، فإنهم ما كانوا إذ ذاك داخلين في أحكام الإسلام ، وإنما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هدنة ، أن لا يتعرض لهم ولا يؤاخذون بشيء من أحكام الإسلام ، فتكون{[1186]} منهم ولهم ، فلما أمر الله تعالى بأخذ الجزية منهم وإجراء أحكام المسلمين عليهم ، أمر بالحكم بينهم بما أنزل الله تعالى ، فسيكون حكماً للآيتين جميعاً تاماً .
فإذا احتمل الأمرين ، فليس قوله : أو أعرض عنهم ، نصاً حتى يحتاج إلى طلب نسخه ، فعلى هذا ينبغي أن يقال : يجب على الإمام أن يحكم بينهم .
ويحتمل أن يقال : من حيث إنهم لا يؤاخذون بأحكام الإسلام وتفاصيل الحلال والحرام ، يجوز للإمام أن لا يحكم بينهم أصلاً .
وروي عن ابن عباس أن الآية التي في المائدة قوله : { فاحْكُم بَيْنَهُم أَو أَعْرِضْ عَنْهُم } ، إنما نزلت في الدية بين بني قريظة وبني النضير ، وذلك أن بني النضير كان لهم شرف يدون دية كاملة ، وأن بني قريظة يدون نصف الدية ، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله ، فأنزل الله تعالى الآية فيهم ، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك ، فجعل الدية سوى ، وأن بني قريظة{[1187]} والنضير ما كان لهم ذمة أصلاً ، وقد أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأهل الذمة لا يجوز ذلك فيهم ، وبنو قريظة قتلوا عن آخرهم لما نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس في أصحابنا من يفصل بين المعاهدة والذمي في هذا المعنى ، فالأقرب أن يقال : إن الحكم في الجميع سواء . وروي عن ابن عباس رواية أخرى .
وعن الحسن وعن مجاهد والزهدي أن الآية وهي قوله : { وأن احْكُمْ بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللهُ ولاَ تَتَبِع أَهْوَاءَهُم } ، نزلت في شأن الرجم حين تحاكموا إليه وهم أيضاً لم يكونوا أهل ذمة ، وإنما تحاكموا إليه طلباً للرخصة وزوال الرجم ، فصار النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيت مدارسهم ووقفهم على آية الرجم ، وعلى كذبهم وتحريفهم كتاب الله تعالى ، ورجم اليهوديين وقال : أنا أولى من أحيا سنة أماتوها ، وهذا يدل دلالة تامة على جواز رجم اليهود خلافاً لأبي حنيفة ، ويدل على أن أهل الذمة محمولون في عقودهم وقضاياهم على موجب أحكام المسلمين كالمسلمين ، ويدل أيضاً على أن الخمر ليست بمضمونة على متلفها ، ولا أنها مال من أموالهم ، لأن إيجاب الضمان على متلفها حكم على موجب أهواء اليهود ، وقد أمرنا بخلاف ذلك .
نعم ، لا نتعرض لهم في خمورهم ولا في مناكحتهم الباطلة ، وقد فتح عمر سواد العراق ، وكان أهلها مجوساً ، ولم يتعرض لمناكحتهم الواردة من قبل على بناتهم وأخواتهم ، ولا فرّق بينهم .
وتحقيق القول فيه ، أن إعراضنا عن ذلك مع علمنا بوجود المحرم لضرب من المصلحة ، غير أن المصلحة منقسمة إلى مصلحة روعيت في حق مرتكبي المحرمات بمنعهم منها ، وبزجرهم عنها ، مثل النهي عن المنكرات في حق المسلمين ، وهذا لم يشرع في حق أهل الذمة ، فإذا عرفنا يقيناً أنهم في بيعهم يقولون ما يقولون ، فلا يتعرض لهم لمصلحة تعود إلى أهل الإسلام من وجه ، وإلى أهل الذمة من وجه آخر ، فأما ما يرجع إلى أهل الإسلام فلا خفاء به .
وأما الذي يرجع إلى أهل الذمة ، فهو أن البغية بعقد الذمة تقبيح سنن رشادهم ، حتى إذا شاهدوا من آيات الله تعالى والأعلام على نبوة نبينا وخالطونا ، انفتحت بصائرهم وقرب الأمر في استجابتهم ، ولو لم يعقد لهم عقد الذمة ، نفروا واستكبروا ولم يتحقق اللطف الذي يؤمن به قرب إجابتهم ، فهذا هو السبب في تقريرنا إياهم وترك الإنكار عليهم ، هذا إن عللنا ، وإن لم نعلل قلنا : الأصل أن لا يقرون ويمنعون إلا حيث أرخص الشرع فيه ، وقد أرخص في ترك النكير في نكاح المحارم وغيره من المحظورات ، فهذا تمام هذا الفن .
فإذا ثبت ذلك ، فقد كان في ابتداء الإسلام مخيراً في أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم ، ثم صار ذلك منسوخاً ، ونفي الإعراض في غير ما تحاكموا إليه فيه ، وقبل ذلك كان الإعراض جائزاً فيما تحاكموا إليه فيه{[1188]} ، وقد قال أبو حنيفة : إذا ترافعوا إلينا وقد جرى النكاح في العدة ، فلا يعترض عليهم في الدوام ، ومعلوم أن أول النكاح في العدة لم يكن على نحو ما يجوز في الإسلام ، إلا أنهم يرون مانع العدة مختصاً بالابتداء ، وهو عذرهم في الشهادة ، وهذا يقتضي أن ما جرى في الشرك مجري على مقتضى اعتقادهم ، فإذا كان كذلك ، فإذا تزوج خمساً دفعة وماتت الخامسة في الشرك يجب ألا يعترض على النكاح ، لأن النكاح إنما امتنع دواماً لوجوب قطع البعض ، فإذا ماتت الخامسة لم يبق مانع في الحال ، غير أنكم جعلتم ما مضى مانعاً ، فهلا كان هاهنا كذلك ، وهذا لا جواب عنه{[1189]} .