الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ من نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ من الشَّاكِرِينَ . فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي الْمَعْنِيِّ بِهَا : وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ ( حَوَّاءُ الْأُمُّ الْأُولَى ، حَمَلَتْ بِوَلَدِهَا ، فَلَمْ تَجِدْ لَهُ ثِقَلًا ، وَلَا قَطَعَ بِهَا عَنْ عَمَلٍ ، فَكُلَّمَا اسْتَمَرَّ بِهَا ثَقُلَ عَلَيْهَا ، فَجَاءَهَا الشَّيْطَانُ وَقَالَ لَهَا : إنْ كُنْت تَعْلَمِينَ أَنَّ هَذَا الَّذِي يَضْطَرِبُ فِي بَطْنِك من أَيْنَ يَخْرُجُ من جِسْمِك ؛ إنَّهُ لَيَخْرُجُ من أَنْفِك ، أَوْ من عَيْنِك ، أَوْ من فَمِك ، وَرُبَّمَا كَانَ بَهِيمَةً ؛ فَإِنْ خَرَجَ سَلِيمًا يُشْبِهُك تُطِيعِينَنِي فِيهِ ؟ قَالَتْ لَهُ : نَعَمْ . فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِآدَمَ ، فَقَالَ لَهَا : هُوَ صَاحِبُك الَّذِي أَخْرَجَك من الْجَنَّةِ . فَلَمَّا وَلَدَتْ -فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ- سَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ بِإِشَارَةِ إبْلِيسَ بِذَلِكَ عَلَيْهَا ، وَكَانَ اسْمُهُ فِي الْمَلَائِكَةِ الْحَارِثَ ، فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } .
وَذَلِكَ مَذْكُورٌ وَنَحْوُهُ فِي ضَعِيفِ الْحَدِيثِ فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ .
وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ كَثِيرٌ لَيْسَ لَهَا ثَبَاتٌ ، وَلَا يُعَوِّلُ عَلَيْهَا مَنْ لَهُ قَلْبٌ ؛ فَإِنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِنْ كَانَ غَرَّهُمَا بِاَللَّهِ الْغَرُورُ فَلَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ من جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ ، وَمَا كَانَا بَعْدَ ذَلِكَ لِيَقْبَلَا لَهُ نُصْحًا وَلَا يَسْمَعَا مِنْهُ قَوْلًا .
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا جِنْسُ الْآدَمِيِّينَ ؛ فَإِنَّ حَالَهُمْ فِي الْحَمْلِ وَخِفَّتِهِ وَثِقَلِهِ إلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ . وَإِذَا خَفَّ عَلَيْهِمْ الْحَمْلُ اسْتَمَرُّوا بِهِ ؛ فَإِذَا ثَقُلَ عَلَيْهِمْ نَذَرُوا كُلَّ نَذْرٍ فِيهِ ، فَإِذَا وُلِدَ لَهُمْ ذَلِكَ الْوَلَدُ جَعَلُوا فِيهِ لِغَيْرِ اللَّهِ شُرَكَاءَ فِي تَسْمِيَتِهِ وَعَمَلِهِ ، حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَنْسُبُهُ إلَى الْأَصْنَامِ ، وَيَجْعَلُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَعَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِالْحَقِّ ، وَأَقْرَبُ إلَى الصِّدْقِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَعُمُومُهَا الَّذِي يَشْمَلُ جَمِيعَ مُتَنَاوَلَاتِهَا ، وَيَسْلَمُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ عَنْ النَّقْصِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِجُهَّالِ الْبَشَرِ ، فَكَيْفَ بِسَادَتِهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : أَوَّلُ الْحَمْلِ بِشْرٌ وَسُرُورٌ ، وَآخِرُهُ مَرَضٌ من الْأَمْرَاضِ . قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا } . وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ إنَّهُ مَرَضٌ من الْأَمْرَاضِ يُعْطِيهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ : فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا وَلَا يَدْعُو الْمَرْءُ هَذَا الدُّعَاءَ إلَّا إذَا نَزَلَتْ بِهِ شِدَّةٌ .
وَهَذِهِ الْحَالُ مُشَاهَدَةٌ فِي الْحَوَامِلِ ، وَلِأَجْلِ عِظَمِ الْأَمْرِ وَشِدَّةِ الْخَطْبِ جُعِلَ مَوْتُهَا شَهَادَةً ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( الشُّهَدَاءُ سَبْعَةٌ سَوَاءٌ : الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَذَكَرَ : الْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجَمْعٍ شَهِيدٌ ) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا ثَبَتَ هَذَا من ظَاهِرِ الْآيَةِ فَحَالُ الْحَامِلِ حَالُ الْمَرِيضِ فِي أَفْعَالِهَا ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ فِعْلَ الْمَرِيضِ فِيمَا يَهَبُ أَوْ يُحَابِي فِي ثُلُثِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : إنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا يَكُونُ حَالُ الطَّلْقِ ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا ؛ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْحَمْلَ عَادَةٌ وَأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ السَّلَامَةُ .
قُلْنَا : كَذَلِكَ أَكْثَرُ الْمَرَضِ الْغَالِبُ عَلَيْهِ السَّلَامَةُ ، وَقَدْ يَمُوتُ مَنْ لَمْ يَمْرَضْ ، وَلَكِنْ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَالِ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا .
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ إنْكَارَ مَرَضِ الْحَامِلِ عِنَادٌ ظَاهِرٌ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ حَمَلَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ الْمَحْبُوسَ فِي قَوَدٍ أَوْ قِصَاصٍ ، وَحَاضِرَ الزَّحْفِ .
وَأَنْكَرَهُ الْإِمَامَانِ الْمَذْكُورَانِ وَغَيْرُهُمَا ، فَإِذَا اسْتَوْعَبْت النَّظَرَ لِمَ تَرَتَّبَ فِي أَنَّ الْمَحْبُوسَ عَلَى الْقَتْلِ أَشَدُّ حَالًا من الْمَرِيضِ ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ غَفْلَةٌ فِي النَّظَرِ ؛ فَإِنَّ سَبَبَ الْمَوْتِ مَوْجُودٌ عِنْدَهُمَا ، كَمَا أَنَّ الْمَرَضَ سَبَبُ الْمَوْتِ ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ من قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } . وَهِيَ : الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : فِي الْأَحْكَامِ من غَيْرِ السُّورَةِ ، وَذُكِرَتْ هَاهُنَا لِاقْتِضَاءِ الْقَوْلِ إيَّاهَا ، وَإِنَّمَا رَأَوْا أَسْبَابَهُ ، وَكَذَلِكَ قَالَ رُوَيْشِدُ الطَّائِيُّ :
يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ *** سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ
وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا *** قَوْلًا يُبَرِّئْكُمْ إنِّي أَنَا الْمَوْتُ
وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ ، وَهِيَ :
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : فِي الْأَحْكَامِ من غَيْرِ السُّورَةِ اقْتَضَاهَا الْقَوْلُ هَاهُنَا : { إذْ جَاءُوكُمْ من فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاَللَّهِ الظُّنُونَا . هُنَالِكَ اُبْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } فَكَيْفَ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ الْحَالَةَ الشَّدِيدَةَ إنَّمَا هِيَ الْمُبَارَزَةُ ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ مُنَازَلَةِ الْعَدُوِّ ، وَتَدَانِي الْفَرِيقَيْنِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الْعُظْمَى من بُلُوغِ الْقُلُوبِ الْحَنَاجِرَ ، وَمِنْ سُوءِ الظُّنُونِ بِاَللَّهِ ، وَمِنْ زَلْزَلَةِ الْقُلُوبِ وَاضْطِرَابِهَا ، هَلْ هَذِهِ الْحَالُ تُرَى عَلَى الْمَرِيضِ أَمْ لَا ؟ فَهَذَا كُلُّهُ لَا يَشُكُّ فِيهِ مُنْصِفٌ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا لِمَنْ ثَبَتَ فِي اعْتِقَادِهِ ، وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَشَاهَدَ الرَّسُولَ وَآيَاتِهِ ، فَكَيْفَ بِنَا ؟ وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَنَا خَبَرٌ من الْأَخْبَارِ لَمْ يَعْرِفْهُ إلَّا الْأَحْبَارُ ، وَلَا قَدَّرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ إلَّا الْأَخْيَارُ ، وَهَذَا كُلُّهُ يُعَرِّفُكُمْ قَدْرَ مَالِكٍ عَلَى سَائِرِ الْعُلَمَاءِ فِي النَّظَرِ ، وَيُبَصِّرُكُمْ اسْتِدَادَهُ عَلَى سَوَاءِ الْفِكَرِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي رَاكِبِ الْبَحْرِ ؛ هَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ أَوْ الْحَامِلِ ؟
فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ . وَقَالَ أَشْهَبُ : حُكْمُهُ حُكْمُ الْحَامِلِ إذَا بَلَغَتْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ . وَابْنُ الْقَاسِمِ لَمْ يَرْكَبْ الْبَحْرَ ، وَلَا رَأَى أَنَّهُمْ دُودٌ عَلَى عُودٍ ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُوقِنَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْفَاعِلُ وَحْدَهُ لَا فَاعِلَ مَعَهُ ، وَأَنَّ الْأَسْبَابَ ضَعِيفَةٌ لَا تَعَلُّقَ لِمُوقِنٍ بِهَا ، وَيَتَحَقَّقُ التَّوَكُّلُ وَالتَّفْوِيضُ فَلْيَرْكَبْ الْبَحْرَ ، وَلَوْ عَايَنَ ذَلِكَ سَبْعِينَ من الدَّهْرِ ، وَتَطْلُعُ لَهُ الشَّمْسُ فِي الْمَاءِ وَتَغْرُبُ فِيهِ ، وَيَتْبَعُهَا الْقَمَرُ كَذَلِكَ ، وَلَا يَسْمَعُ لِلْأَرْضِ خَبَرًا ، وَلَا تَصْفُو سَاعَةٌ من كَدَرٍ ، وَيَعْطَبُ فِي آخِرِ الْحَالِ ، كَانَ رَأْيُهُ كَرَأْيِ أَشْهَبَ ، وَاَللَّهُ يُوَفِّقُ الْمَقَالَ وَيُسَدِّدُ بِعِزَّتِهِ الْمَذْهَبَ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مَرِيضَةٌ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي فِطْرِهَا وَفِدْيَتِهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .