قوله تعالى : { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث } : روي أن أيوب عليه السلام لما مرض كانت زوجته تختلف إليه مدة مرضه فيلقاها الشيطان – في صورة طبيب مرة وفي صورة ناصح مرة أخرى وعلى غير ذلك – فيقول لها : لو سجد هذا المريض للصنم الفلاني لبرئ . لو ذبح عناقا للصنم الفلاني لبرئ ، ويعرض عليها وجوها من الكفر فكانت هي ربما عرضت ذلك على أيوب ، فيقول لها : لقيت عدو الله في طريقك . فلما أغضبته بهذا ونحوه حلف لئن برئ ليضربنها مائة سوط . فلما برئ أمره الله تعالى أن يأخذ ضغثا فيه مائة قضيب ، والضغث القبضة الكبيرة من القضبان ونحوها من الشكيس الرطب فيضرب بها ضربة واحدة فيبر به يمينه . وهذا الحكم قد ورد مثله في شرعنا عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في رجل عليه حد زنا وكان زمنا فأمر صلى الله عليه وسلم أن يضرب بعذق نخلة فيها شماريخ مائة فيضرب بها ضربة .
واختلف الناس هل هذا الحكم باق لم ينسخ ؟ فذهب جماعة إلى أنه حكم باق محكم وأن من حلف ليضربن عبده مائة سوط يبر بجمعها وضربه بها ضربة واحدة ، وإلى هذا ذهب الشافعي ، وهو قول أبي حنيفة ومحمد وزفر وعطاء وذهب أكثر العلماء إلى ترك القول به ، وهو قول مالك وأصحابه . إلا أن الذين ذهبوا إلى ذلك اختلفوا هل ذلك منسوخ بشريعتنا أم لا ؟ فذهب قوم إلى أنه منسوخ في شريعتنا وأن الحدود والبر في الأيمان لا يقع إلا بإتمام عدد الضربات . قال بعضهم : والناسخ لذلك من شريعتنا قوله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } [ النور : 2 ] والذي يجلد بالضغث جلدة واحدة لم يجلد مائة جلدة وإنما جلد جلدة واحدة ، وكتاب الله أولى أن يقتدى به . وذهب بعضهم إلى أنه كان ذلك الحكم خاصا بأيوب عليه السلام لا يشاركه فيه غيره . فعلى هذا لا يتصور في الآية نسخ ، وهذا مذهب مالك رحمه الله تعالى وقال أبو بكر بن العربي لما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات " ركب مالك رحمه الله تعالى عليها اليمين فاعتبر فيها النية أيضا ، ولعل أيوب عليه السلام اقتضت يمينه ما أمر به من جمع الضغث . والذي أراه أن يمينه على أية صفة تصورت فإن الحالف يبر بجمع مائة سوط والضرب بها مرة واحدة . والأيمان إنما يراع فيها الأرفق بالناس ولا يؤخذ فيها بالتغليظ لما فيه من التنفير عن الدين والوقوع في المحظور وذلك قوي جدا في الأيمان التي أخذ بها الناس . وقد قال مالك إمام الأئمة في قوله الحلال عليه حرام أنه إن حاشى زوجته بقلبه لم يلزمه فيها حنث وليس يبقى تحت اليمين بعدها شيء . فإن سائر الأعيان المحرمة – غير الزوجة – لا يحرم شيء منها بهذه اليمين . فيبقى اليمين لغوا وتكون نيته في استثناء الزوج بقلبه رفعا لليمين .
وفي الآية أيضا دليل على أن للرجل أن يضرب زوجته وأن له أن يحلف ولا يستثني .