42 قوله تعالى : { سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } {[6583]} الآية .
اختلف{[6584]} في تفسير{[6585]} السحت ، فقيل : الرشاوي ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { السحت الرشوة في الحكم } ، {[6586]} وروي عن ابن مسعود أنه قال : السحت أن يقضي الرجل لأخيه حاجة فيهدي{[6587]} إليه{[6588]} هدية فيقبلها . وروي عن علي رضي الله تعالى عنه ، قال : السحت{[6589]} الرشوة في الحكم ومهر{[6590]} البغي وعسيب الفحل وكسب الحجام وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستعجال في المعصية{[6591]} . وقال بعضهم : السحت هنا الحرام ، وأصله في اللغة الاستئصال من قولهم : أسحته الله أي استأصله ، وهو راجع إلى معنى الهلاك . وكذلك الحرام مهلك أهله ، فأخذ الرشوة من هذا ، وكذلك الهدية على الحكم ، فإن الحاكم يجب عليه إظهار الحق ، فما أخذ عليه فهو رشوة ، ومن أجل هذا منع الشافعي الصلح على الإنكار ؛ لأن{[6592]} الذي ينكر إذا جعل القول قوله ، فكأنه بما بذله من المال يدفع الظلم عن نفسه فهو كالرشوة على فعل واجب أو رفع ظلم . ومن هذا القبيل من يستشفع به إلى السلطان{[6593]} يتقي شره فيدفع إليه على ذلك رشوة ، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي{[6594]} .
وقوله تعالى : { فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } :
اختلف في{[6595]} هذه الآية ، هل هي محكمة أم منسوخة ؟ فذهب قوم إلى أنها محكمة ، وأن الإمام مخير في الحكم بينهم إذا تحاكموا إليه ، وهو قول مالك والمشهور من قول الشافعي . وذهب قوم إلى أنها منسوخة وأنه{[6596]} يحرم ترك{[6597]} الحكم بينهم ، وأن الإمام{[6598]} لا يكون مخيرا في ذلك{[6599]} . والناسخ قوله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } {[6600]} وقوله : { فاحكم بينهم بما أنزل الله } [ المائدة : 48 ] ، وأنه لا يجوز للإمام ردهم إلى حكامهم{[6601]} إذا حكموه ، وإنما كان ذلك التخيير في أول الإسلام ليكون ذلك أدعى لقلوبهم وأقرب ، ثم نسخ بما ذكرناه . وقد قال عمر بن عبد العزيز والزهري والشافعي في أحد قوليه في معنى{[6602]} قوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهو صاغرون } [ التوبة : 29 ] ، إنه{[6603]} أن{[6604]} تجري عليهم أحكام المسلمين فيجب أن لا يرادوا إلى حكامهم{[6605]} . وهذا القول في الآية . بعيد لأن النسخ حكم مبتدأ لا يكون معطوفا{[6606]} على{[6607]} ما قبله ، فعطف هاتين الآيتين على آية التخيير يدل على أنهما غير ناسختين لآية التخيير . والذين ذهبوا إلى{[6608]} القول الأول اختلفوا{[6609]} في تأويل الآيتين اللتين ذكر أنهما{[6610]} ناسخان . فقيل : إن قوله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } وقوله : { فاحكم بينهم بما أنزل الله } ، معناه : فيما يتظالمون به بينهم . وقيل : إن المراد أن أحكم بينهم إن حكمت ، فهي على ما توجبه الآية الأخرى من التخيير . وقيل : إن الآية الأولى تضمنت التخيير في الحكم ، وأنه عليه الصلاة والسلام{[6611]} إن اختار الحكم حكم بينهم بحكم التوراة ، وهو المراد بقوله : { فاحكم بينهم بالقسط } [ المائدة : 42 ] ، وبقوله تعالى{[6612]} : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } [ المائدة : 49 ] – أي في التوراة – إن حكمت ثم نسخ ما فيها من الحكم بالتوراة بقوله عز و جل : { فاحكم بينهم بما أنزل الله } [ المائدة : 48 ] ، معناه{[6613]} : بما أنزل الله عليك{[6614]} في القرآن{[6615]} إن حكمت . قالوا : فالآية ناسخة للحكم بالتوراة{[6616]} لا للتخيير في الحكم ، إذ قد أجمع{[6617]} أهل العلم على أنه لا يجوز الحكم بينهم{[6618]} إلا بما في القرآن . وقال أبو الحسن : يحتمل أن يكون آية الإعراض عنهم قبل ضرب الجزية عليهم ؛ لأنهم لم يكونوا حينئذ داخلين في حكم الإسلام ، وإنما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هدنة في أن لا يتعرض لهم ولا يؤخذون بشيء{[6619]} من أحكام{[6620]} الإسلام ، فلما أمر الله تعالى بأخذ الجزية منهم وجرت عليهم أحكام الإسلام أمرنا بالحكم بينهم ، فيكون حكم الآيتين جميعا حكما{[6621]} ثابتا غير منسوخ ، ففرق بين أهل العهد والذمة . والأصح أنهما سواء ، فيتحصل من هذا أن ما تظالموا فيه متفق على أن الإمام يحكم بينهم{[6622]} فيه ، وإن لم يحكموه ، ويكف بعضهم عن بعض ، ويكف غيرهم أيضا عنهم ؛ لأنهم إنما بذلوا الجزية على ذلك ، فهو{[6623]} من الوفاء لهم ، ولا خلاف في ذلك بين أحد من أهل العلم ، وأن ما سوى ذلك من الأحكام إذا تحاكموا إلينا فيه ، ففيه{[6624]} قولان ، أحدهما : التخيير في الحكم . والثاني : إيجاب الحكم . وإذا لم يتحاكموا إلينا بدليل أنه لا يحكم بينهم في شيء ويردون فيه إلى أهل دينهم ، وقد قيل : إنه يجب أن يحكم عليهم في الحدود شاؤوا أو أبوا وإن لم يحكمونا ولا رضوا بحكمنا ، وهذا القول ترده آية التخيير على ما قدمنا . ففي الحدود التي يجب على الإمام أن يحكم فيها بين{[6625]} المسلمين ، وإن لم يترافعوا إليه ، ثلاثة أقوال في أهل الذمة ، أحدها : أنه يجب على الإمام أن يحكم بينهم فيها وإن لم يحكموه ، وهو قول ضعيف . والثاني : لا يجب عليه إلا أن يحكموه . وقد قدمنا وجه رده . والثالث : أن ذلك لا يجب عليه وإن حكموه ، وهذا القول هو الذي تعضده آية التخيير . وفي البيوع والنكاح والمعاملات وما أشبه ذلك مما لا يجب على الإمام أن يحكم بين{[6626]} المسلمين فيه إلا أن يترافعوا إليه قولان ، ، أحدهما : أنه يجب عليه أن يحكم بينهم فيها إذ ترافعوا إليه ورضوا بحكمه .
والثاني : وهو مذهب مالك الذي تعضده الآية أن ذلك ليس عليه بواجب وله أن يحكم أو يترك ، وإذا رضي أحد الخصمين{[6627]} منهم{[6628]} بحكم المسلمين وأبى{[6629]} الآخر فلا يحكم بينهم بحكم{[6630]} المسلمين ، لأن{[6631]} الله تعالى إنما قال : { فإن جاءوك } يريد الخصمين ، إلا أنه اختلف في العتق والطلاق إذا أبى المعتق والمطلق من تنفيذ ذلك وطلب العبد أو الزوجة التنفيذ فيه بحكم{[6632]} المسلمين ، فحكى سحنون عن المغيرة أن السلطان يحكم بطلاق المرأة وعتق الغلام ، ذكر ذلك فيمن حلف بذلك وحنث{[6633]} ورفعت الزوجة والعبد{[6634]} أمرهما إلى السلطان ، وإذا تراضيا أن يحكم بينهما حاكم المسلمين في طلاق وقع ، فإن كان ذلك على أن يحكم بينهما في ذلك كما لو كانا مسلمين حكم بصحة الطلاق ، وإن كان ثلاثا منعه{[6635]} منها إلا بعد زوج . وإن قالا{[6636]} : احكم بما يجب على النصراني عندكم إذا طلق ، فالذي يحكم به{[6637]} بينهما أن ذلك ليس بطلاق ، على مذهب الجمهور . وحكى ابن القصار{[6638]} عن ابن شهاب والأوزاعي والثوري أن طلاقهم{[6639]} طلاق واقع ، وأنه إن طلق ثلاثا ثم أسلم في الحال لم يقر معها{[6640]} ، ولا تحل{[6641]} إلا بعد نكاح مستأنف ، فإن قالا : احكم بيننا{[6642]} بما يجب في ديننا أو كانا{[6643]}يهوديين فقالا{[6644]} : احكم بما يجب في ذلك بالتوراة{[6645]} ، لم يحكم بينهما ؛ لأنا لا ندري هل ذلك مما غيروه أم لا ، لأن ذلك منسوخ بالقرآن . وقد قيل : إن{[6646]} حكم{[6647]} النبي عليه الصلاة والسلام{[6648]} بينهم إذ ذاك قبل أن تكون لهم ذمة .
واختلف في النصرانيين يريد أن التحاكم إلى حكم المسلمين{[6649]} ويأبى ذلك الأسقف ، هل لحاكم المسلمين أن يحكم بينهما{[6650]} أم لا{[6651]} ؟ فقال ابن القاسم : لا يحكم بينهما وقال سحنون : له أن يحكم بينهما ، وقول سحنون أجرى على ظاهر الآية ، لأن قوله تعالى : { فإن جاؤوك{[6652]} فاحكم بينهم } إنما أراد به من بتحاكم إلينا منهم ، ولم يذكر رضى أسقف{[6653]} ولا غيره . وهذه الآية قيل : إنها نزلت في المدينة بين بني قريظة وبني النضير وذلك أن بني النضير{[6654]} كان لهم شرف ، فكانوا يؤدون دية كاملة ، وكان بنو قريظة يؤدون نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت الآية فحملهم على التسوية في ذلك{[6655]} ، ولم يكن لقريظة والنضير ذمة أصلا ، وقد أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأهل الذمة لا يجوز ذلك فيهم ، وهذا القول مروي عن ابن عباس ، وروي عنه أيضا وعن الحسن ومجاهد والزهري : أنها نزلت في القصة المشهورة من تحكيم النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الزانيين ، فحكم عليهما بالرجم{[6656]} .
وقد اختلف هل حكم النبي صلى الله عليه وسلم بينهما{[6657]} بحكم التوراة أم بحكم الإسلام ؟ فذهب قوم إلى أنه إنما حكم بينهم بحكم التوراة{[6658]} ؛ لأن حكم الإسلام في مثل هؤلاء أن لا حد عليهم ، فحكم صلى الله عليه وسلم بينهم بالرجم الذي هو حكم التوراة إذ لم تكن لهم ذمة ، فكان{[6659]} دمهم مباحا ، فإنما حكم النبي صلى الله عليه وسلم بينهم بحكم الإسلام الذي هو القتل فيمن لم تكن له ذمة{[6660]} من الكفار ، ووافق{[6661]} حكم التوراة ، وإنما نزلت آية الجزية سنة تسع من الهجرة منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من حنين ، قالوا : وقوله تعالى : { فاحكم بينهم بالقسط } ، أي بالقتل الموافق لحكم التوراة ، وإلى نحو هذا ذهب مالك . وقال بعضهم : حكم النبي صلى الله عليه وسلم بينهم بحكم التوراة الذي هو الرجم{[6662]} ولم يفرقوا بين أهل الذمة وغيرهم{[6663]} . ثم نسخ الحكم بما في التوراة ، وأمر أن يحكم بما في القرآن ، وقيل : حكم النبي صلى الله عليه وسلم بينهم{[6664]} بما في{[6665]} التوراة قبل أن تنزل آية الزنا ، وأن{[6666]} هذا يقتضي الحكم بالتوراة فيما لم يجيء فيه عندنا{[6667]} حكم . وذهب قوم إلى أنه إنما حكم{[6668]} بينهم بحكم الإسلام ؛ لأن الإسلام ليس بشرط في الإحصان ، وأن اليهوديين والنصرانيين إذا زنيا حكم عليهما بالرجم إن كان ثيبين ، وبالجلد إن كانا بكرين . قال الشافعي في أحد قوليه : إذا رضيا بحكم المسلمين فعلى هذا يكون قوله تعالى : { فاحكم بينهم بالقسط } لا يريد به التوراة . ورجح الطبري هذا القول .
وقد قيل في مثل هذه النازلة : أنهما يجلدان ولا يرجمان ، ورو ي عن أبي حنيفة وعن المغيرة من أصحاب مالك . قال أبو الحسن : وهذه الآية أيضا تدل على أن الخمر ليست بمال لأهل الذمة ولا بمضمونة على متلفها عليهم ؛ لأن إيجاب ضمانها على متلفها{[6669]} حكم بموجب{[6670]} أهل اليهود ، وقد أمرنا بخلاف ذلك لهم ، لا{[6671]} نتعرض لهم في خمورهم{[6672]} ، ولا في مناكحاتهم{[6673]} الباطلة . وقد فتح عمر رضي الله تعالى{[6674]} عنه سواد العراق ، وكان أهلها مجوسا ، ولم يتعرض لمناكحاتهم الكائنة من قبل على{[6675]} أخواتهم وبناتهم ولا فرق بينهم .