قوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم } :
اختلف في هذه الآية هل هي في الصدقة المفروضة أم في صدقة التطوع ؟ فذهب جماعة إلى أنها في صدقة التطوع ورووا أن أبا لبابة والجماعة التائبة معه – وهي المقصودة بقوله تعالى : { خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا } [ براءة : 102 ] – جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تيب عليها {[9241]} فقالت يا رسول الله : إنا نريد أن نتصدق بأموالنا زيادة في توبتنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لا أعرض لأموالكم إلا بأمر الله تعالى " . فتركهم حتى نزلت الآية . فروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ ثلث أموالهم مراعاة لقوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة } . إلى هذا ذهب ابن عباس وغيره {[9242]} . وذهب جماعة إلى أنها في الصدقة المفروضة {[9243]} . وإذا قلنا بهذا فقوله : { من أموالهم } لفظ عام في الأموال المأخوذ منها الصدقة وفيمن تؤخذ منه الصدقة {[9244]} .
وقوله تعالى : { صدقة } لفظ مجمل في القدر المأخوذ ما هو . فينبغي أن يبحث عن عموم الآية ما خص منه وما لم يخص . وعن مجملها بما فسر . أما الأموال فلا خلاف أنه يدخل تحت عمومها الحرث والماشية والعين . واختلف في سوى هذه من العروض على ثلاثة أقوال : أبو حنيفة يوجب فيها الصدقة على الإطلاق {[9245]} وداود يسقطها {[9246]} على الإطلاق ، ومالك يوجبها على المدير على شروط معلومة من مذهبه . وحجة أبي حنيفة قوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة } . وحجة داود قوله عليه الصلاة والسلام : " ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة " {[9247]} ففهم منه أن ذلك خارج عن تلك الأموال لا لعلة وحمل عليه سائر العروض وأما مالك رحمه الله تعالى فحمل الآية على عمومها من عروض التجارة والحرث فلذلك فرق بين المدير وغيره . وأما من تؤخذ منه الصدقة فالآية فيهم محمولة على عمومها ، إلا أنه اختلف في الصبيان والمجانين . فمالك يوجب الزكاة في أموالهم على الإطلاق . وأبو حنيفة يسقطها عليهم إلا في الحرث . وابن شبرمة يسقطها إلا في الماشية ، وقوم يسقطونها جملة . فحجة مالك عموم الآية وقوله عليه الصلاة والسلام : " أمرت أن آخذها من أغنيائهم " وغير ذلك من العموم . وبمثل هذا يحتج ابن شبرمة ، إلا أن أبا حنيفة تناقض بإيجابه {[9248]} الزكاة في حرثها ، وابن شبرمة بإيجابه الزكاة {[9249]} في ماشيتها . وحجة من أسقطها جملة حجة أبي حنيفة إلا أنه لا تناقض في قوله ، وقول مالك ومن تابعه أظهر . واختلف أيضا {[9250]} في العبيد {[9251]} . فعندنا أنه لا تجب زكاة في أموالهم {[9252]} ، والشافعي في أحد قوليه وأصحاب الرأي وسفيان {[9253]} يرون الزكاة في أموالهم وأن السيد يخرجها . وأبو ثور يرى مثل ذلك إن كان المملوك مسلما ، وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه يريان في ماشيتهم خاصة الصدقة يخرجها السيد .
وحجة مالك ومن تابعه قوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة } دل على أنه لم يرد العبد إذ لا يصح أن يقال في مال العبد أنه ماله على الإطلاق إذ لا يجوز له ما يجوز لرب المال في ماله من الهبة والصدقة وما أشبه ذلك بإجماع ، وإنما هو ماله على صفة . فإطلاقه ذلك اللفظ دل على أن العبيد لم يدخلوا في عموم المأخوذ منهم . ومن رأى الزكاة في أموالهم رأى عموم الآية منسحبا عليهم ، وما سوى هذين {[9254]} القولين {[9255]} ضعيف . وأما الصدقة التي جاءت مجملة في القرآن فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما المراد بذلك الإجمال . أما في العين فجعل النصاب المأخوذ منه ربع العشر في الورق مائتي درهم وفي الذهب عشرين دينارا على ما ذكرنا فيما تقدم من أنه قد روي ذلك عنه . وفي الحرث خمسة أوسق وفي الماشية خمس ذود من الإبل وفيها شاة وأربعين شاة من الغنم يؤخذ منها واحدة . وفي ثلاثين من البقر يؤخذ منها تبيع . وفي أربعين مسنة ، على خلاف في هذا كله وهو محتاج إلى تفسير واستقصاء طويل ليس هذا الكتاب بموضع له {[9256]} .
وقوله تعالى : { تطهرهم وتزكيهم بها } يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو المخاطب بذلك فيكون الضمير له . ويحتمل أن يكون الضمير عائدا على الصدقة يكون تقدير قوله : { بها } أي نفسها . ويحتمل أن يكون الضمير في { تطهرهم } عائدا على الصدقة{[9257]} ويكون { وتزكيهم } مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا يدل على أنه لا يجوز أن تؤخذ زكاة من كافر لأن التطهير والتزكية لا تصح في الكفار .
قوله تعالى : { وصل عليهم . . . } معناه ادع لهم فإن في دعائك لهم سكونا لأنفسهم . وقيل أراد الصلاة المعلومة صلاة الجنائز {[9258]} وقد تقدم قول من زعم أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا } {[9259]} [ براءة : 84 ] وبينا فساده . والذين قالوا إن معنى الآية الدعاء ، قالوا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : " اللهم صل على آل فلان " بسبب هذه الآية . قال ابن أبي أوفى {[9260]} فأتاه أبي بصدقته فقال : " اللهم صل على آل أبي أوفى " {[9261]} . واختلف الناس بحسب هذا هل يجب على الإمام إذا أوتي بالصدقة أن يدعو أم لا ؟ فذهب أهل الظاهر إلى وجوب ذلك أخذا بظاهر القرآن والحديث المذكور . ولم يوجبه الجمهور ، وقال ابن القصار : قول الجماعة أولى .
وقوله تعالى : { وصل عليهم } معناه إذا ماتوا . هكذا يقتضي إطلاق الصلاة في الشريعة {[9262]} ولو ثبت أنه أراد الدعاء لكان خصوصا للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : { إن صلواتك سكن لهم } ولا نعلم هذا في غير النبي صلى الله عليه وسلم . ويجوز أن يحمل الأمر على الندب . وبهذه الآية احتج مانع الزكاة على أبي بكر بقوله تعالى : { إن صلواتك سكن لهم } فقالوا : لم تكن الزكاة إلا مع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت سكنا ، وصلاة غيره ليست كذلك فلا تجب الزكاة علينا {[9263]} . واختلف في الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم هل يجوز أن يقال صلى الله على فلان ؟ فلم يجزه قوم وذكر عن ابن عباس ، وأجازه الجمهور وحجة إجازتهم الآية والحديث المتقدم . واختلف هل يجب دفع الزكاة في الأموال الظاهرة كالحرث والماشية إلى الإمام أم لا ؟ ففي مذهب مالك {[9264]} أنه يجب ، وإن فرقها المالك دون الإمام ضمن {[9265]} . وذهب الشافعي في قوله الجديد إلى أن رب المال مخير بين أن يفرقها بنفسه أو يدفعها إلى الإمام فيفرقها . ودليل قول مالك وأصحابه قوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة } .