قوله تعالى : { وابْتَلُوا{[698]} اليَتامَى حتّى إذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإنْ آنَسْتُم مِنهُم رُشْداً فادْفَعُوا إلَيْهِم أمْوالهُم } الآية [ 6 ] :
واعلم أن كثيراً من العلماء جوزوا إذن الولي للصبي في التجارات وتسليم المال إليه ، حتى يتصرف وتبدو بياعاته وتصرفاته ، وليس في العلماء من يقول إنه إذا اختبر الصبي فوجد رشيداً ارتفع عنه الولاية ، وأنه يجب دفع ماله إليه ، وإطلاق يده في التصرف ، وذلك يدل على أن الابتلاء في الصبي ليس يفيد العلم برشده ، فكذلك قال الله تعالى : { وابْتَلَوا اليَتامَى حتّى إذ بَلَغُوا النِّكاحَ فإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً } ، فدل ذلك على أن الابتلاء قبل البلوغ لا بدفع المال إليه ، ولا بأن يبقى بعقله ورأيه ، حتى يزعم بكونه رشيداً ، فإنه لو كان كذلك ما توقف وجوب دفع المال على بلوغ النكاح ، بل دل على أن الابتلاء قبل البلوغ في أمر الدين والدنيا ، بأن يربيه على الخيرات والطاعات ، ويندبه إلى المراشد وتأمل التصرفات والتجارات ، حتى يكون نشوة على الخيرات ، فإذا بلغ النكاح نفعه ما تقدم من التدريب ، ويحصل به إيناس الرشد ، وهو إحساس الرشد ، مثل قوله تعالى : { إني آنَسْتُ ناراً{[699]} } : يعني أحسستها وأبصرتها ، وذلك يدل على أن الذي يجري في الصبى غير موثوق به شرعاً ، إنما توطئة وتمهيداً لزمان البلوغ الذي يوثق فيه بإيناس الرشد ، فهذا تحقيق لمذهب الشافعي رضي الله عنه ، ويرد على من خالفه ، ثم قال الشافعي : ولما قال تعالى : { فإنْ آنَسْتُمْ مِنهُمْ رُشدْاً } ، وهو يقتضي صلاح الدين والدنيا ، والفاسق غير رشيد ولا مأمون ، وهذا لأن التبذير يتولد من غلبة الهوى ، والهوى منشأ الفسق ، ولا يؤمن من الفاسق صرف المال إلى المحصور المنكور ، وذلك تبذير وإن قل ، فإنه لا يكتسب به محمدة في الدنيا والآخرة ، والكثير في الطاعات ليس بتبذير ، على ما عرف من أقوال السلف رضوان الله عليهم أجمعين ، فهذا معنى الآية .
قوله تعالى : { وَمَنْ كانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ{[700]} وَمَنْ كانَ فقيراً فَلْيَأكُلْ بالمَعْروفِ } الآية [ 6 ] : توهم متوهمون من السلف بحكم هذه الآية ، أن للوصي أن يأكل من مال الصبي قدراً لا ينتهي إلى حد الإسراف ، وذلك خلافاً ما أمر الله تعالى به في قوله : { لا تَأكُلوا أمْوالَكُم بَيْنَكُم بالباطِلِ إلاَّ أنْ تَكونَ تِجارةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُم{[701]} } ، ولا يتحقق ذلك في مال اليتيم .
فقوله : { فَمَن كانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ } : يرجع إلى أكل مال نفسه دون مال اليتيم فمعناه : ولا تأكلوا أموال اليتيم مع أموالكم ، بل اقتصروا على أكل أموالكم ، وقد دل عليه قوله تعالى : { ولا تَأكُلوا أمْوالَهُم إلى أمْوالَكُم إنّه كانَ حُوباً كَبِيراً{[702]} } ، وبان بقوله تعالى : { وَمَن كانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ ، ومَن كانَ فقيراً فَلْيأكُل بالمَعْروُفِ } ، الاقتصار على البلغة حتى لا يحتاج إلى أكل مال اليتيم ، فهذا تمام معنى هذه الآية ، فقد وجدنا آيات محكمات بمنع أكل مال الغير بغير رضاه ، سيما في حق اليتيم ، ووجدنا هذه الآية محتملة للمعاني ، فحملها على موجب الآيات المحكمات متعين{[703]} .
وقد جوز أبو حنيفة للوصي أن يعمل في مال الصبي مضاربة ، فيأخذ منه مقدار ربحه ، وإذا جاز ذلك ، فلم لا يجوز أن يأكل من ماله إذا عمل فيه ، فيأخذ أجر المثل بل هو أولى ، فإن أجر المثل معلوم في وضع الشرع ، ومقدار أجرة عمله مأخوذ من العادة ، وأما الربح فهو نتيجة الشرط وليس أجرة عمله ، وهو على قدر الشرط ، وأي قدر شرطه العامل الوصي لنفسه من الربح ، فهو متحكم فيه ، وإنما الشرط للعامل من جهة رب المال ، وإلا فالواجب أجر المثل في القراض الفاسد ، وهاهنا إذا لم يكن أجر المثل مع أنه أقرب ، فالتحكم بالتقدير من جهة العامل كيف يحتمل ، والربح أبعد عن الاستحقاق ، فإن الربح زيادة على عين مال اليتيم ، والزيادة تبع المزيد عليه ، وليس للوصي في مال اليتيم حق .
وأما الأجرة : ففي مقابلة العمل والعمل حق للوصي ، وأنه من منفعة فهو أولى ببذلها ، فلا وجه لمذهب أبي حنيفة ، والعمومات التي ذكرناها من قبل في إبطال التصرف في مال اليتيم بطريق القراض وغيره .
فإن قال من ينصر مذهب السلف ، إن القضاة يأخذون أرزاقهم لأجل عملهم للمسلمين ، فهلا كان للوصي كذلك ، إذا عمل لليتيم ولم لا يأخذ الأجرة بقدر عمله ؟ قيل له : اعلم أن أحداً من السلف لم يجوز للوصي أن يأخذ من مال الصبي مع غنى الوصي ، بخلاف القاضي ، فذلك فارق بين المسألتين . . وبعد : فالذي يفصل بينهما من طريق المعنى يقول : إن الرزق ليس كأجرة الشيء ، وإنما هو شيء جعله الله تعالى لكل من قام بشيء من أمور الإسلام ، فللمقابلة بينهم من مال الله تعالى ، وللفقهاء سهم ، مع أنهم لم يعملوا شيئاً يستحقون عليه الأجرة ، لأن اشتغالهم بالفتوى وتفقيه الناس ، فرض لا يؤخذ عليه أجر ، وكذلك الخلفاء لهم سهم من مال الله تعالى ، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم سهم من الخمس والصفى وسهم من الغنيمة ، وما كان يأخذ الأجرة على شيء يقوم به من أمر الدين ، وكيف يجوز ذلك مع قول الله تعالى : { قُلْ ما سَألْتُكُم مِن أجْرٍ فَهُوَ لَكُم{[704]} } ، { قُل ما أسْألُكُم عَلَيهِ مِنْ أجْرٍ{[705]} } : فالذي يأخذه الفقهاء والقضاة والخلفاء ، لا يأخذون من مال واحد معين ، وإنما يأخذون من مال الله الذي لا يتعين له مالك ، وقد جعل الله ذلك المال الضائع حقاً لأصناف بأوصاف ، والقضاة من جملتهم ، والوصي إنما يأخذ بعمله مال شخص معين من غير رضاه ، وعمله مجهول وأجرته مجهولة ، وذلك بعيد عن الاستحقاق .
واعلم أن الاحتياط الذي أمر الله به في حق اليتامى ، وأن لا يدفع إليهم أموالهم إلا بعد إيناس الرشد ، يدل لا محالة بطريق الأولى على أن الأولياء من الأوصياء ، والأقارب والحكام ، لا بد وأن يكونوا عدولاً ذوو رشد .
والفاسق المتهم من الآباء ، والمرتشي من الحكام والأوصياء ، والأمناء غير المأمونين ، لا يجوز جعلهم أولياء وحكاماً ، ويدل على ذلك أن الحاكم إذا فسق انعزل{[706]} .
قوله تعالى : { فإذا دَفَعْتُم إليْهِمْ أمْوالهُمْ فأشْهِدُوا عَلَيْهِم } : يؤذن بالاحتياط القاطع للدعوى الباطلة ، كما أمر بالاحتياط في المداينات قطعاً للمنازعة ، لا جرم قال الشافعي رضي الله عنه : لو ادعى تسليم المال إلى الصبي بعد البلوغ وأنكر الصبي ، لم يصدق إلا بينة . . نعم المودع يصدق في الرد دون بينة ، لمصلحة تعلقه بالوديعة ، في أنه لا يرضى المودع بالإشهاد على ردها ، لما فيه من إشهار أمرها ، والودائع تعرض في خفية ، ولأن المودع ائتمنه فرضي بقوله واعتقد أمانته .
وأما الائتمان من جهة الصبي فلم يجز أصلاً ، وفي هذا المعنى نظر فإن الوصي في معنى النائب عن الصبي ، فكذلك كان نائباً عنه في التصرفات ، فيجوز أن يكون نائباً عنه في الحفظ حكماً ، وإن لم توجد الاستنابة من جهة الصبي خاصة الآن ، فإن نيابته عن الصبي ظاهرة ، وكذلك إذا ادعى تلف المال . . قيل : ولولا النيابة كان ضامناً للمال ، لأنه ممسك مال غيره دون استنابة . . ومما يتعلق به الشافعي رضي الله عنه ، أن الله تعالى إنما أمر بالإشهاد ، لأن دعواه مردودة في الرد دون البينة . . ويمكن أن يقال : فائدته ظهور أمانته وبعده عن التهمة ، وقطع دعوى الصبي بالباطل وسقوط اليمين عن الوصي ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الملتقط بالإشهاد على اللقطة في حديث عياض بن حمار المجاشعي ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَن وجَد لقطةً فلْيُشهِد ذوي عدلٍ ولا يَكْتُم ولا يغِيب{[707]} " ، فأمره بالإشهاد ليظهر أمانته وتزول الشبهة عنه .