قوله تعالى : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين } إلى قوله : { وليجدوا فيكم غلظة } :
اختلف في سبب الآية ، فقيل سببها إن المؤمنين الذين كانوا بالوادي سكانا ومبعوثين لتعليم الشرع لما سمعوا قوله تعالى : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب } [ براءة : 120 ] أهمهم ذلك فنفروا إلى المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت .
وقيل سببها إنه لما نزلت الآية في المتخلفين قالوا : هلك أهل البوادي . فنزلت هذه الآية مقيمة لعذرهم {[9287]} . والآية على هذين القولين مخصصة لعموم الآية التي قبلها ، وقيل هذه الآية مختصة بالبعوث والسرايا نزلت فيهم والآية المتقدمة ثابتة الحكم مع خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه ثابتة الحكم مع تخلفه أي يجب إذا تخلف أن لا ينفر الناس كافة فيبقى هو منفردا . وإنما ينبغي أن تنفر طائفة وتبقى طائفة لتفقه هذه الطائفة في الدين وينذروا النافرين إذا رجع النافرون إليهم ، وإلى نحو هذا ذهب ابن عباس . وقال الحسن لتتفقه الطائفة النافرة ثم تنذر إذا رجعت إلى قومها المتخلفة ، قال وهذا التأويل أشبه بظاهر الآية {[9288]} وقيل ليست الآية في معنى الغزو وإنما سببها أن قبائل من العرب – لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين – أصابتهم مجاعة شديدة فنفروا إلى المدينة لمعنى المعاش فكادوا أن يفسدوها . وكان أكثرهم غير صحيح الإيمان وإنما أضر بهم الجوع فنزلت الآية في ذلك . والآية على هذين القولين في غير معنى الآية المتقدمة ، فالآية غير ناسخة على ما ذكرنا من الأقوال في سببها ، وإلى هذا ذهب{[9289]} الأكثر . وذهب قوم إلى أنها ناسخة لكل ما ورد من إلزام الكافة النفير .
وقد استدل قوم بهذه الآية على وجوب العمل بخبر الواحد {[9290]} . قالوا والطائفة نفر يسير كالثلاثة . قال بعضهم ويقع على الواحد . قالوا ولا يحصل العلم بخبر هؤلاء وقد أخبر الله تعالى أنهم ينذرون قومهم ، وفي ضمن ذلك قبول إيجاب إنزالهم . وخالفهم غيرهم في ذلك من القدرية {[9291]} ومن تابعهم من أهل الظاهر ورأوا تحريم العمل به واحتجوا بقوله تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم } [ الإسراء : 36 ] وبغير ذلك مما لا تثبت به حجة . وأنكره أيضا قوم ولم يروا في الشرع دليلا على تحريمه ولا على وجوبه . وضعف من أنكر العمل بخبر الواحد الاستدلال بالآية التي ذكرنا بأن قالوا هذا إن كان قاطعا فهو في وجوب الإنذار لا في وجوب العمل على النذر عند اتحاد المنذر إلى غير ذلك من التأويلات الضعيفة . والقول بوجوب العمل به وهو الذي عليه جماهير العلماء وأهل السنة ، والحجة على إثباته من الكتاب والسنة والإجماع واضحة ، وفي جلبها طول فلذلك نعرض عنها إذ قد بسط ذلك كله غيرنا . واستدل بعضهم بهذه الآية على اشتراط العدد في الراوي . فقال لا يقبل الحديث من أقل من ثلاثة لأن الطائفة أقلها ثلاثة ، ومنهم من اشترط اثنين ومنهم من اشترط أربعة . وفي هذه الآية أيضا دليل على أنه يجب على العام قبول قول الواحد من أهل العلم وتقليده . وانظر كم عدد الطائفة التي تنفر . وقد قال تعالى : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } [ النور : 2 ] واختلف في قدرها . وقال عليه الصلاة والسلام : " لا تزال طائفة من أمتي على الحق . . . " {[9292]} وهل يراد بها عدد التواتر أم لا ؟ وقد اختلف في ذلك .
وقوله تعالى : { ولينذروا قومهم } يفيد ما بلغوا عن الرسول وما يفتون به من اجتهادهم خلافا لمن لم ير للعام التقليد وألزمه النظر . وفي هذه الآية أيضا دلالة على وجوب طلب العلم وأنه من فروض الكفاية في بعض وفرض عين في بعض .