وقوله تعالى : { إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به . . . . } .
كانت العرب كلها تحج البيت وتعظم الشهور الحرم الأربعة التي حرمها إبراهيم{[9037]} عليه السلام وكانوا يحجون في ذي الحجة حتى حدث النسيء بسبب أنهم كانوا لا يقاتلون في شهر حرام . ولما احتاجوا {[9038]} للقتال فيه أحلوا الشهر الحرام وحرموا الحلال ليواطئوا {[9039]} عدة{[9040]} الشهور الحرم فكان أول من فعل ذلك قد أحل المحرم وحرم صفر . وحج النبي صلى الله عليه وسلم – وقد عاد المحرم إلى ما كان عليه من التحريم – فأنزل الله تعالى : { إن عدة الشهور عند الله . . . . } الآية . وأخبر أن النسيء كفر وأن الأشهر الحرم أربعة : ثلاثة منها متوالية ، وأن صفر لا يقام مقام المحرم ، ورفع ما كانوا يفعلونه بهذه الآية . واختلف فيمن فعله من العرب أولا . فقيل القلمس : وهو حذيفة بن عبيد بن فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن كنانة ، ثم ابنه عباد ثم أمية بن قلع ثم ابن عوف بن أمية ثم أبو ثمامة جنادة بن عوف وكان آخرهم وعليه قام الإسلام ، وهذا قول ابن إسحاق {[9041]} . ومن هذا قول شاعرهم :
ومنا منسي الشهور القلمس {[9042]}
وقيل غيره ، وأشعارهم في هذا كثيرة . قال الأبهري وكانوا يسمونه – يعني المحرم وصفر – الصفرين . وكان القلمس يحل في الشهر الحرام دماء طي وخثعم لأنهما كانا لا يريان الحج من بين سائر العرب . ثم اختلف كيف كانوا يصنعون في سائر شهور السنة من السنة هل كانوا يبقونها {[9043]} على أسمائها أم كانوا يغيرونها أيضا ؟ فقيل إنهم كانوا يغيرونها يسمون صفر المحرم لأجل تحريمه ثم يسمون ربيعا الأول صفرا وربيعا الأخير ربيعا الأول وهكذا آخر الشهور ، وهذا هو القول الذي قدمناه من أنهم كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا وهو قول مجاهد وأبي مالك . وقيل بل كانوا يحلون المحرم ويحرمون صفر بدلا منه ويتركون الشهور على أسمائها المعهودة ، فإذا كان من قابل حرم المحرم على أصله وأحل صفرا مشت الشهور مستقيمة . ورأى من قال ذلك أن هذه كانت حالة القوم . وقال قوم في معنى الآية إن رؤساء بني كنانة وغيرها كانوا يؤخرون الحج في كل سنة عن وقته شهرا فيوقعونه في المحرم بعد ذي الحجة ثم في السنة الأخرى في صفر ، فبين تعالى أن هذا الصنع كفر . وقد اختلف في قوله عليه الصلاة والسلام : " إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض " {[9044]} فقيل لأن العرب كانوا {[9045]} قد تمسكوا بملة إبراهيم عليه السلام في تحريم الأشهر الحرم وكانوا ينسئون الشهر الحرام إلى الذي يليه إذا احتاجوا إلى القتال فيه ، وينتقلون هكذا من شهر إلى شهر حتى اختلط الأمر عليهم فصادفت حجة النبي صلى الله عليه وسلم تحريمهم قد طابق الشرع وكانوا في تلك السنة قد حرموا ذا الحجة بالاتفاق على الحساب الذي قلناه ، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الاستدارة صادقت ما حرم الله به يوم خلق السموات والأرض . وقيل كانت العرب تحج عامين في كل 0هر فصادفت حجة أبي بكر ذا القعدة من السنة التاسعة وصادفت حجة النبي صلى الله عليه وسلم ذا الحجة فلهذا أشار بالاستدارة . وذهب الخوارزمي {[9046]} إلى أن الله سبحانه أول ما خلق الشمس أجراها في أول برج الحمل وكان الزمن الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم صادف حلول الشمس في الحمل . وهذا قول فاسد . وقد عدل على ما ذكر بعض المتأخرين فلم يوجد كذلك {[9047]} . واختلف في قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا عدوى ولا هامة ولا صفر " {[9048]} ما أراد بقوله ولا صفر ؟ ففي بعض الأقوال أنه أراد ما كان من النسيء ويؤخذ من قوله تعالى : { إن عدة الشهور عند الله . . . } الآية ، أن الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها بالشهور العربية دون الشهور التي تعتبرها الروم والفرس وغيرها . وقد خصص الله تعالى منها الأربعة الحرم وليس يظهر لهذا التخصيص معنى سوى تحريم المقاتلة . وقد نسخ ذلك أو تحريم القتل حتى أن الدية تغلظ فيها على قول بعض العلماء {[9049]} .