6 قوله تعالى : { وابتلوا اليتامى } :
قال مجاهد والحسن وغيرهما{[2790]} أي اختبروهم في عقولهم وأديانهم وتمييز أحوالهم{[2791]} .
والمخاطبون بالابتلاء هم الأولياء الناظرون للأيتام . واختلف في الوصي من قبل الأب أو القاضي : هل لواحد منهما إطلاق من هو{[2792]} إلى نظره إذا علم حسن حاله دون إذن القاضي وشهادة الشهود بحسن حال المحجور أم لا ؟
ففي وصي القاضي ثلاثة أقوال : ذهب قوم{[2793]} إلى أنه لا يطلق إلا بإذن القاضي وإليه ذهب ابن زرب{[2794]} .
وذهب قوم إلى أنه لا يطلق بغير إذن القاضي إلا أن يكون المحجور عليه معروفا بالرشد فإذا{[2795]} عقد له بذلك عقدا ضمنه معرفة شهدائه لرشده . وقال{[2796]} قوم : إطلاق من إليه نظره جائز بغير إذن القاضي ، وإن{[2797]} لم يعرف رشده إلا بقوله .
وفي وصي الأب أيضا ثلاثة أقوال مثل ذلك فالأشهر منها{[2798]} أن إطلاقه جائز وهو مصدق فيما يذكر من حاله ، وإن لم يعرف ذلك إلا من قوله .
وقال عبد الوهاب{[2799]} : لا ينفك الحجر بحكم أو بغيره إلا بحكم الحاكم وسواء في ذلك الصبي والبالغ والمفلس . والحجة لمن أجاز للموصيين الإطلاق دون إذن القاضي إذا علم حسن الحال ، وإن لم يعرف ذلك غيرهم{[2800]} ظاهر الآية : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } ، فجعل الدفع لمن{[2801]} إليه الابتلاء وهو الذي إليه النظر في أمر المحجور{[2802]} .
قال بعضهم : والقول الآخر اليوم أحسن لفساد حال الناس ، يريد أنه{[2803]} لا يطلق إلا بإذن القاضي ، ويجوز أن يكون معنى الآية على هذا إن أنس منهم حكامهم رشدا فحذف .
واختلف في وقت الابتلاء : ففي كتاب محمد أنه بعد البلوغ يكون الابتلاء ، وقال الأبهري وغيره من البغداديين : هو ما كان قبل البلوغ لا يحتاج إلى غيره ، وهو أبين ، لقول الله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } {[2804]} .
فجعل الابتلاء قبل البلوغ{[2805]} .
وقوله : { فإن آنستم منهم رشدا } يريد الابتلاء{[2806]} لا بغيره و " الفاء " في قوله{[2807]} : { فإن آنستم } للشرط لا للتعقيب ، واختلف هل يبتلى بشيء{[2808]} من ماله يدفع إليه ليختبر به أم لا ؟ فالظاهر{[2809]} من مذهب مالك المنع ، قال : إذا فعل ذلك الولي{[2810]} فلحقه دين لم يلحقه ذلك الدين في المال الذي بيده{[2811]} ، ولا في الذي في يد وصيّه ، وأجاز ذلك غيره ، وقال : يلحقه الدين في المال{[2812]} الذي في يده{[2813]} ، والظاهر من الآية إجازة ذلك ؛ لأن الله تعالى أمر بالابتلاء ولم يخص الابتلاء في المال من الابتلاء بغير المال{[2814]} ويعضد هذا القول تفسير مجاهد وغيره للآية . والرشد الذي ذكره الله تعالى في الآية هو حسن النظر في المال{[2815]} ، وأن يضع الأمور مواضعها .
واختلف هل من شرطه صلاح الدين أم لا ؟ :
قال من اعتبره{[2816]} : الفاسق غير رشيد ولا مأمون لأن التبذير يتولد من غفلة الهوى . والهوى : منشأ الفسق ، ولا يؤمن من الفاسق صرف المال في المحظور{[2817]} المنكر وذلك تبذير وإن قل ، فإنه{[2818]} لا يكسب به محمدة{[2819]} في الدنيا والآخرة والكثير في الطاعات{[2820]} ، ليس بتبذير على ما علم من أقوال السلف رضي الله تعالى عنهم .
وللمفسرين في تفسير الآية ألفاظ مختلفة :
فقال الحسن وقتادة{[2821]} : الرشد الصلاح في العقل والدين . وقال ابن عباس والسدي والثوري {[2822]} : الصلاح في العقل وحفظ المال . وقال مجاهد العقل خاصة .
واختلف في الصبي الذي نظر فيه وصي يبلغ ، فالمشهور في المذهب المعمول أنه لا يجوز له فعل ، وإن كان رشيدا ما لم يطلق من وثاق{[2823]} الحجر بخلاف حاله مع الأب ، وهو الظاهر من الآية ؛ لأنه تعالى لم يأمر{[2824]} بدفع أموالهم إليهم إلا إذا أونس منهم الرشد . ومعنى : { آنستم } عرفتم ، فوكل الإيناس إلى الأولياء ، ولولا أنه لا يخرج من الحجر إلا بإطلاقهم لم يكن لجعله الإيناس فائدة . وقيل : إن حال الصبي مع الوصي كحاله مع الأب ، فإن علم رشده بعد البلوغ فأفعاله جائزة ، وليس للوصي أن يرد شيئا منها ، وإن لم يشهد{[2825]} على إطلاقه من الولاية ، وإن علم سفهه فلا يخرج من الولاية ، وإن جهل حاله فيختلف فيه كما يختلف في ذي الأب .
وقوله تعالى : { حتى إذا بلغوا النكاح } :
وهو الحلم في الرجال بلا خلاف في ذلك ، واختلف قول{[2826]} مالك في الإناث ما البلوغ فيهن ؟ فمن أشهر أقواله أنه{[2827]} أن يدخل بهن أزواجهن{[2828]} ، وله في بعض كتبه أنه الحيض . قال فيه قوله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح } ، وقال : بلوغ النكاح الاحتلام والحيض ، فساوى بين الذكور والإناث بأن يدفع إليها مالها إذا حاضت وأونس منها الرشد وإن لم تتزوج . وإذا عدم البلوغ فهل يعتبر الإنبات في الدلالة على البلوغ أم لا ؟ فيه قولان في المذهب ، ويحتمل أن تتأول الآية على ذلك لأنه إذا{[2829]} صحت دلالته على بلوغ النكاح فقد بلغ النكاح ، ولا خلاف أن السن دليل على بلوغ النكاح ، إلا أنه اختلف في حده ، فقيل : خمس عشرة سنة ، وهو قول ابن وهب . وقيل : سبع عشرة سنة ، وقيل : ثماني{[2830]} عشرة سنة ، والقولان أيضا في المذهب . قال عبد الوهاب : والصحيح أنه{[2831]} لا حد في ذلك واستدل بقوله تعالى : { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم } [ النور : 59 ] ، وقد استدل بعضهم بهذه الآية على أن الوصي على المحجورة إنما له النظر فيما يتعلق بالمال لا بالبدن ، فإنما النظر فيه للمحجورة{[2832]} ، ليس للوصي فيه نظر خلافا لمن يقول أن للوصي النظر في ذلك كله ، وقال المستدل بالآية : لأن الله تعالى خص الأموال بالذكر دون الأبدان{[2833]} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " البكر تستأمر في نفسها " {[2834]} ، وإنما معناه{[2835]} : تستأمر في بدنها وإن كانت ذات الأب خارجة عن هذا الحديث بدليل آخر . وقوله تعالى : { ولا تأكلوها إسرافا وبدارا } ، أي مبادرة{[2836]} ، أي يكبروا{[2837]} فيأخذوها منكم .
قوله تعالى : { ومن كان غنيا فليستعفف } إلى قوله : { للرجال نصيب } {[2838]} الآية :
اتفق أهل العلم جميعا على تحريم أكل مال اليتيم ظلما وإسرافا وعلى أن ذلك من الكبائر لقوله تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا } [ النساء : 10 ] ، وقوله : { ولا تأكلوها إسرافا وبدارا } ، فإذا لم{[2839]} يكن إسرافا وبدارا فإن ذلك يختلف بحسب حال الولي ، فإن كان غنيا فقد اختلف فيه ، فقيل : لا يأكل شيئا لقوله تعالى : { ومن كان غنيا فليستعفف } فبعضهم يرى ذلك محظورا ويرى الأمر أمر وجوب . وبعضهم يراه مكروها ويرى الأمر أمر ندب ، وقيل : مباح للغني أن يأكل منه بقدر قيامه عليه وخدمته فيه وانتفاع اليتيم به في حسن نظره إليه ، فإن لم يكن له في ذلك خدمة ولا عمل سوى أن يفتقده{[2840]} ويشرف عليه لم يكن له أن يأكل منه إلا ما لا ثمن له ولا قدر لقيمته ، مثل اللبن{[2841]} في الموضع الذي لا ثمن{[2842]} له فيه{[2843]} ، ومثل الفاكهة في ثمر حائطه ولا يركب دوابه فيكون الأمر على هذا أمر إباحة ، وإن كان الولي فقيرا فقد اختلف فيه أيضا ، والاختلاف في ذلك يأتي على حسب اختلافهم في قوله تعالى : { ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } ، وذلك أنهم اختلفوا فيه : هل هو منسوخ أم محكم ؟ والذين ذهبوا إلى أنه منسوخ اختلفوا في ناسخه : فذهب قوم إلى أنه منسوخ بقوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم } [ البقرة : 188 ] ، وإلى نحو هذا ذهب أبو يوسف صاحب أبي حنيفة{[2844]} ، وروي عن ابن عباس أنه قال : نسخها { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } [ النساء 10 ] الآية ، كذا ذكر بعضهم عن ابن عباس{[2845]} وقال غيره عن ابن عباس : نسخ الله تعالى منها الظلم والاعتداء بقوله : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } الآية{[2846]} ، والذين ذهبوا إلى أنه محكم اختلفوا في تأويله{[2847]} ، فروي عن يحيى ابن سعيد ، وربيعة بن أبي عبد الرحمان{[2848]} أنها في اليتيم ، إذا كان{[2849]} اليتيم فقيرا أنفق عليه بقدر فقره . وإن كان غنيا أنفق عليه بقدر غناه . وروي عن ابن عباس أن المعنى : فليأكل ولي اليتيم بالمعروف من مال نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم ، فعلى هذين التأويلين ، وعلى قول بأن الآية منسوخة يأتي قول من لا يجيز لولي اليتيم أو{[2850]} الأمين أن يأخذ شيئا من مال إلى نظره ، وإن كان محتاجا وهذا قول مجاهد ، وذكره{[2851]} جماعة عن أبي حنيفة . قال أبو الحسن : قد جوّز أبو حنيفة للوصي{[2852]} أن يعمل في مال الصبي مضاربة فيأخذ منه مقدار ربحه . وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يأكل ماله إذا عمل فيه فيأخذ أجر مثل ، بل هو أولى ، فإن أجر المثل معلوم من وضع الشرع ومقدار أجرة عمله مأخوذ{[2853]} من العادة ، وأما الربح فهو على قدر الشرط ، وأي قدر شرطه الوصي{[2854]} من الربح لنفسه فهو فيه متحكم . قال الحسن ابن صالح{[2855]} : إن كان أبوهم أوصى بهم إليه فله أن يستقرض من مالهم وإن كان الحاكم{[2856]} جعله وصيا لم يستقرض . وذهب قوم إلى أن الآية محكمة ، وأنها تقتضي إباحة الأكل للفقير . واختلفوا في المباح من ذلك فقال بعضهم : يأكل على وجه القرض يرده إذا{[2857]} أيسر ، وهو قول لعمر ابن الخطاب روي عنه ، وقول{[2858]} جماعة من التابعين . ومعنى { بالمعروف } عندهم : قرضا ، وقال أبو العالية : يأكل من الغلة ، ومعنى قوله : { بالمعروف } أي : من الغلة فأما من الناس{[2859]} فلا يأكل قرضا كان{[2860]} أو غير قرض .
وقول جماعة{[2861]} : { فليأكل بالمعروف } {[2862]} يريد من نفس المال ، أي قوته{[2863]} ما سد جوعه وستر عورته إذا احتاج إليه وليس عليه رده ، وهو قول الحسن وقتادة والنخعي ، وذكره بعضهم عن أبي حنيفة وأصحابه . وقال بعض القائلين بهذا القول : معنى قوله : { بالمعروف } يأكل من مال يتيمه بأطراف أصابعه ولا يكتسي منه .
وقال بعض أهل العراق : إذا سافر من أجل اليتيم فله أن يتقوّت شيئا من ماله في سفره ، وتأوّل{[2864]} الآية عليه .
وقيل : معناه : أن يأكل{[2865]} من جميع المال ، وإن أتى على المال ولا قضاء عليه ، وروي عن ابن عباس أنه قال لرجل{[2866]} سأله عن إبل يتيم في حجره : إن كنت تلتمس ضالتها وتهنأ جراباها{[2867]} وتلوط حوضها وتسقي عليه فاشرب من لبنها غير مضر بنسل{[2868]} ولا ناهك في الحلب ، وعند المالكيين في معنى الآية أنه إذا كان وصي اليتيم{[2869]} أو الأمين {[2870]} محتاجا جاز أن يأكل من مال اليتيم{[2871]} بقدر أجرة مثله . ويعضده ما تقدم من قول ابن عباس{[2872]} : إن كنت تلتمس ضالتها . . . الخ ، قوله{[2873]} وقول عائشة{[2874]} : رخص الله تعالى{[2875]} لولي اليتيم أن يأكل بالمعروف ولأنه ناظر في مصلحة غيره أصله الإمام . وقد أجمعت الأمة أن الإمام لا يجب عليه غرم ما أكل منه بالمعروف{[2876]} ؛ لأن الله تعالى{[2877]} فرض سهمه في مال الله تعالى .
وقوله تعالى : { فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم } :
الأمر بالإشهاد أمر ندب عند أكثر العلماء ، وبعضهم يراه أمر إيجاب .
والمعنى : إذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا على الدفع أي لا تدفعوه{[2878]} إلا بشهود ، وعن عمر{[2879]} وغيره أن المعنى : فأشهدوا{[2880]} عليهم فيما استقرضتم منهم .
واختلف إذا بلغ اليتيم فطلب الوصي بماله :
ففي المذهب أنه{[2881]} إذا زعم الوصي أنه دفعه{[2882]} إليه لم يقبل منه إلا ببينة خلافا لأبي حنيفة في قوله : إن القول قوله مع يمينه ؛ لقوله تعالى : { فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم } فأمر الولي بالتوثق لنفسه والإشهاد{[2883]} عند تسليم الأمانة التي في يده إلى غير من ائتمنه عليها ، فلولا أنه يضمن إذا جحد لم يكن للأمر بالتوثيق فائدة .
وقد اختلف فيمن دفع إليه مال ليدفعه إلى رجل{[2884]} آخر من دين له على الدوافع أو هبة أو صدقة أو شبه ذلك فقال : قد دفعت ، وقال : الذي أمر بالدفع إليه لم يدفع إلي{[2885]} فقال ابن القاسم : إن لم تقم للرسول بينة بالدفع غرم .
وقال ابن كنانة : إن كان المال يسيرا لم يضمن وصدق ، وإن كان كثيرا ضمن إن لم يشهد .
وقال ابن الماجشون : القول قول الرسول مع يمينه ، والآية حجة لقول ابن القاسم ؛ لأنه كان يجب أن لا يدفع إلا بإشهاد{[2886]} ؛ كالولي لليتيم لأنهما دفعا إلى غير من دفع إليهما .
وقال اللخمي : قول ابن الماجشون أبين ، وقد قيل في قوله تعالى : { فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا / عليهم } أن ذلك لدفع{[2887]} التنازع لا لأنه لا يقبل{[2888]} قوله ؛ كما قيل في قوله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } [ البقرة : 282 ] ، إلا أن تكون العادة الإشهاد فلا يبرأ إلا بذلك .