{ ذو مرة} بكسر الميم .أي متانة وإحكام في علمه ،لا يمكن تغيّره ونسيانه .والعرب تقول لكل قويّ العقل والرأي ( ذو مرة ) من ( أمررت الحبل ) إذا أحكمت فتله{ فاستوى وهو بالأفق الأعلى} قال الزمخشريّ:فاستقام على صورة نفسه الحقيقية ،دون الصورة التي كان يتمثل بها ،كلما هبط بالوحي .وكان ينزل في صورة دحية .
فالفاء – كما قال شراحه- سببية ،لأن تشكله يتسبب عن قوته وقدرته على الخوارق .أو عاطفة على{ علَّمه} أي علمه على غير صورته الأصلية ،ثم استوى على صورته الأصلية .
وقيل:{ استوى} بمعنى ( استولى ) بقوته على ما أمر بمباشرته من الأمور – حكاه القاضي- .
قال الشهاب:الأفق الناحية ،وجمعه آفاق .والمراد الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر ،لا مصطلح أهل الهيأة .انتهى .
وقال ابن كثير:وقوله تعالى:{ فاستوى} يعني جبريل عليه السلام – قاله الحسن ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس{ وهو بالأفق الأعلى} يعني جبريل استوى في الأفق الأعلى .قاله عكرمة وغير واحد .
ثم قال ابن كثير:وقد قال ابن جرير{[6811]} ههنا قولا لم أره لغيره ،ولا حكاه هو عن أحد .وحاصله أنه ذهب إلى أن المعنى فاستوى ،أي هذا الشديد القوى وصاحبكم محمد صلى الله عليه وسلم ،بالأفق الأعلى ،أي استويا جميعا بالأفق الأعلى ،وذلك ليلة الإسراء – كذا قال – ولم يوافقه أحد على ذلك .ثم شرع يوجه ما قاله من حيث العربية فقال:وهو كقوله:{[6812]}{ أءذا كنا ترابا / وآباؤنا} فعطف بالآباء على المكنّى في{ كنّا} من غير إظهار ( نحن ) فكذلك قوله:{ فاستوى وهو} .قال:وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده:
ألم تر أن النبع يصلب عوده *** ولا يستوي والخِرْوَعُ المُتَقَصِّفُ
وهذا الذي قاله من جهة العربية متجه ،ولكن لا يساعده المعنى على ذلك ،فإن هذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء ،بل قبلها ،ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض ،فهبط عليه جبريل عليه السلام ،وتدلى إليه ،فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها ،له ستمائة جناح .ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ،يعني ليلة الإسراء ،وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة ،بعدما جاءه جبريل عليه السلام أول مرة ،فأوحى الله إليه صدر سورة{ اقرأ} ثم فترة الوحي فترة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم فيها مرارا ليتردى من رؤوس الجبال ،فكلما همّ بذلك ناداه جبريل من الهواء:يا محمد ! أنت رسول الله حقا ،وأنا جبريل فيسكن لذلك جأشه ،وتقر عينه .وكلما طال عليه الأمر ،عاد لمثلها حتى تبدى له جبريل ،ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح في صورته التي خلقه الله عليها ،له ستمائة جناح ،قد سدّ عظم خلقه الأفق ،فاقترب منه ،وأوحى إليه عن الله عز وجل ما أمره به ،فعرف عند ذلك عظمة الملك الذي جاءه بالرسالة ،وجلالة قدره ،وعلو مكانته عند خالقه الذي بعثه إليه .انتهى .
أقول:قد وافق القاشانيّ ابن جرير في تأويل الآية ،وعبارته:
{ فاستوى} فاستقام على صورته الذاتية ،والنبيّ بالأفق الأعلى ،لأنه حين كَوْن النبيّ بالأفق المبين لا ينزل على صورته ،لاستحالة تشكل الروح المجرد في مقام القلب ،إلا بصورة تناسب الصور المتمثلة في مقامه ،ولهذا كان يتمثل بصورة دحية الكلبي ،وكان من أحسن الناس صورة ،وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .إذ لو لم يتمثل بصورة يمكن انطباعها في الصدر ،لم يفهم القلب كلامه ،ولم ير صورته .وأما صورته الحقيقية التي جبل عليها فلم تظهر للنبي صلى الله عليه وسلم إلا مرتين:عند عروجه إلى الحضرة الأحدية ووصوله بمقام الروح في الترقي ،وعند نزوله عنها ورجوعه إلى المقام الأول عند سدرة المنتهى في التدلي .انتهى .
/ وكذا المهايميّ وافقهما وعبارته:
{ فاستوى وهو} أي صاحبكم عند استواء نفسه ،صار{ بالأفق الأعلى} الروحانيّ .انتهى .
وكذا الفخر الرازي وعبارته:
المشهور أن{ هو} ضمير جبريل ،وتقديره:استوى كما خلقه الله بالأفق الشرقيّ ،فسدّ المشرق لعظمته .والظاهر أن المراد محمد صلى الله عليه وسلم .معناه:استوى بمكان ،وهو بالمكان العالي رتبة ومنزلة في رفعة القدر ،لا حقيقة في الحصول في المكان .
فإن قيل:كيف يجوز هذا والله تعالى يقول{[6813]}{ ولقد رءاه بالأفق المبين} إشارة إلى أنه رأى جبريل بالأفق المبين ؟ نقول:وفي ذلك الموضع أيضا نقول كما قلنا ههنا ؛ أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل وهو بالأفق المبين .يقول القائل:رأيت الهلال ،فيقال له:أين رأيته ؟ فيقول:فوق السطح .أي:إن الرائي فوق السطح ،لا المرئيّ .و{ المبين} هو الفارق ،من{ أبان} أي فرق .أي هو بالأفق الفارق بين درجة الإنسان ،ومنزلة الملك ،فإنه صلى الله عليه وسلم انتهى ،وبلغ الغاية ،وصار نبيّا ،كما صار بعض الأنبيّاء نبيا يأتيه الوحي في نومه ،وعلى هيأته ،وهو واصل إلى الأفق الأعلى ،والأفق الفارق بين المنزلتين .
فإن قيل:ما بعده يدل على خلاف ما تذهب إليه ،فإن قوله{ ثم دنا فتدلى} إلى غير ذلك ،وقوله تعالى:{ ولقد رءاه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى} كل ذلك يدل على خلاف ما ذكرته ؟ نقول:سنبيّن موافقته لما ذكرنا إن شاء الله تعالى في مواضعه ،عند ذكر تفسيره .
فإن قيل:الأحاديث تدل على خلاف ما ذكرته ،حيث ورد في الأخبار أن جبريل عليه السلام رأى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على صورته ،فسدّ المشرق .فنقول:نحن ما قلنا إنه لم يكن / وليس في الحديث أن الله تعالى أراد بهذه الآية تلك الحكاية ،حتى يلزم مخالفة الحديث ،وإنما نقول إن جبريل أرى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه مرتين ،وبسط جناحيه ،وقد ستر الجانب الشرقي وسدّه ،ولكن الآية لم ترد لبيان ذلك .انتهى كلام الرازيّ .
وفي القرطبي حكاية أقوال أخر ،وعبارته:
{ فاستوى} أي ارتفع جبريل ،وعلا إلى مكانه في السماء ،بعد أن علّم محمدا صلى الله عليه وسلم – قاله سعيد بن المسيّب وابن جبير- .
وقيل:{ فاستوى} أي قام وظهر في صورته التي خُلِقَ عليها .
وقول ثالث:أن معنى{ فاستوى} أي استوى القرآن في صدره .وفيه على هذا وجهان:
أحدهما – في صدر جبريل حين نزل به عليه السلام .
الثاني -في صدر محمد صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه .
وقول رابع:أن معنى{ فاستوى} فاعتدل .يعني محمدا في قوّته ،والثاني في رسالته – ذكره الماورديّ- .
وعلى الأول يكون تمام الكلام{ ذو مرة} ،وعلى الثاني{ شديد القوى} .
وقول خامس:أن معناه فارتفع ،وفيه على هذا وجان:
أحدهما – أنه جبريل ارتفع إلى مكانه ،وعلى ما ذكرناه آنفا .
الثاني – أنه النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع بالمعراج .
وقول سادس:{ فاستوى} يعني الله عز وجل .أي استوى على العرش – على قول الحسين- انتهى .
هذا ما وقفنا عليه الآن من الأقوال في الآية ،وسيأتي في أول التنبيهات إيضاح ما اخترناه منها ،وإنما أخّرنا ذكره لارتباطه بالآيات الآتية .