{ يرسل عليكما شواظ} أي من لهب{ من نار ونحاس} أي صفُر مذاب يصبّ / على رؤوسهم{ فلا تنتصران} أي تمتنعان وتنقذان منه .يعني:إذا أصررتما على الكفر والطغيان وعصيان الرسول ،فما أمامكم في الآخرة إلا هذا العذاب الأليم .
وقد ذهب ابن كثير إلى أن هذه الآية وما قبلها ،مما يخاطب به الكفرة في الآخرة ،وعبارته:
هذا في مقام الحشر ،والملائكة محدقة بالخلائق ،فلا يقدر أحد على الذهاب إلا بسلطان ،أي بأمر الله{[6894]}{ يقول الإنسان يومئذ أين المفر * كلا لا وزر * إلى ربك يومئذ المستقر} وقال تعالى:{[6895]}{ والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ،ما لهم من الله من عاصم ،كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما ،أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} ولهذا قال تعالى:{ يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران} والمعنى لو ذهبتم هاربين يوم القيامة ،لردتكم الملائكة والزبانية بإرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا .انتهى .
ثم رأيت قد سبقه إلى ذلك ،الإمام ابن القيم رحمه الله ،فقد قال رحمه الله في أواخر كتابه ( طريق الهجرتين ) في تفسير هذه الآية ،بعد أن ذكر نحو ما قدمنا من الوجهين في تأويل قوله تعالى:{ إن استطعتم أن تنفذوا} ما مثاله:
وفي الآية تقرير آخر ،وهو أن يكون هذا الخطاب في الآخرة ،إذا أحاطت الملائكة بأقطار الأرض ،وأحاط سرادق النار بالآفاق ،فهرب الخلائق ،فلا يجدون مهربا ولا منفذا ،كما قال تعالى:{[6896]}{ ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد * يوم تولون مدبرين} قال مجاهد:فارّين غير معجزين .وقال الضحاك .إذا سمعوا زفير النار ندّوا هربا ،فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفا ،فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه ،فذلك / قوله:{[6897]}{ والملك على أرجائها} وقوله:{[6898]}{ يا معشر الجن والإنس ...} الآية .وهذا القول أظهر – والله أعلم – فإذا بده الخلائق ولوا مدبرين ،يقال لهم:{ إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض} أي إن قدرتم أن تتجاوزوا أقطار السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر على عذابكم ،فافعلوا .وكأن ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على هذا القول ،فإن قبلها{ سنفرغ لكم ...} الآية ،وهذا في الآخرة ،وبعدها{[6899]}{ فإذا انشقت السماء ...} الآية ،وهذا في الآخرة .وأيضا فإن هذا خطاب لجميع الإنس .والجن فإنه أتى فيه بصيغة العموم ،وهي قوله:{ يا معشر الجن والإنس} فلا بد أن يشترك الكل في سماع هذا الخطاب ومضمونه ،وهذا إنما يكون إذا جمعهم الله في صعيد واحد ،يسمعهم الداعي ،وينفذهم البصر .وقال تعالى:{ إن استطعتم} ولم يقل:إن استطعتما ،لإرادة الجماعة ،كما في آية أخرى{[6900]}{ يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم} وقال:{[6901]}{ يرسل عليكما} ولم يقل:يرسل عليكم ،لإرادة الصنفين ،أي لا يختص به صنف عن صنف ،بل يرسل ذلك على الصنفين معا .وهذا ،وإن كان مرادا بقوله:{[6902]}{ إن استطعتم} فخطاب الجماعة في ذلك بلفظ الجمع أحسن .أي من استطاع منكم .وحسّن الخطاب بالتثنية في قوله:{ عليكما} أمر آخر ،وهو موافقة رؤوس الآي ،فاتصلت التثنية بالتثنية .وفيه التسوية بين الصنفين في العذاب بالتنصيص عليهما ،فلا يحتمل اللفظ إرادة أحدهما – والله أعلم- انتهى كلام ابن القيّم .
وأنت ترى أن لا قرينة تخصص الآية بالقيامة ،وما استشهد به من الآيات لا يؤيده ،لأنه ليس من نظائره .فالوجه ما ذكرناه .
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان} قال القاضي:فإن التهديد لطف ،والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار ،من عداد الآلاء .