{ ولا أنتم عابدون} أي فيما تستقبلونه أبدا{ ما أعبد} أي الآن ،وفيما أستقبل ،هكذا فسره الإمام ابن جرير{[7566]} رحمه الله ،ثم قال:وإنما قيل ذلك كذلك ؛ لأن الخطاب من الله كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أشخاص بأعيانهم من المشركين قد علم أنهم لا يؤمنون أبدا ،وسبق لهم ذلك في السابق من علمه ،فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤيسهم من الذين طمعوا فيه ،وحدثوا به أنفسهم ،وإن ذلك غير كائن منه ولا منهم في وقت من الأوقات ،وآيس نبي الله صلى الله عليه وسلم من الطمع في إيمانهم ،ومن أن يفلحوا أبدا ،فكانوا كذلك لم يفلحوا ولم ينجحوا إلى أن قتل بعضهم يوم بدر بالسيف ،وهلك بعض قبل ذلك كافرا ،ثم روى رحمه الله عن ابن إسحاق عن سعيد بن مينا قال:"لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:يا محمد ،هلم ،فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد ،ونشركك في أمرنا كله ،فإن كان الذي كنت قد شركتنا في أمرنا ،وأخذت منه بحظك ،فأنزل الله{ قل يا أيها الكافرون ...} السورة "،وفي رواية"وأنزل الله في ذلك هذه السورة وقوله{[7567]}{ قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون}{ بل الله فاعبد وكن من الشاكرين}"انتهى .
وقيل:الجملتان الأخيرتان لنفي العبادة حالا ،كما أن الأوليين لنفيها استقبالا .قال أبو السعود:وإنما لم يقل ( ما عبدت ) ليوافق{ ما عبدتم} لأنهم كانوا موسومين قبل البعثة بعبادة الأصنام ،وهو عليه السلام لم يكن حينئذ موسوما بعبادة الله تعالى .وإيثار{ ما} في{ ما أعبد} على ( من ) ؛ لأن المراد هو الوصف ،كأنه قيل:{ ما أعبد} من المعبود العظيم الشأن الذي لا يقادر قدر عظمته ،وقيل:إن ( ما ) مصدرية ،أي لا أعبد عبادتكم ،ولا تعبدون عبادتي .وقيل:الأوليان بمعنى ( الذي ) ،والأخريان مصدريتان .وقيل:قوله تعالى{ ولا أنا عابد ما عبدتم} تأكيد لقوله تعالى:{ لا أعبد ما تعبدون} ،وقوله تعالى:{ ولا أنتم عابدون ما أعبد} ثانيا تأكيد لمثله المذكور أولا ،انتهى .
ونقل ابن كثير عن الإمام ابن تيمية أن المراد بقوله:{ لا أعبد ما تعبدون} نفي الفعل ؛ لأنها جملة فعلية{ ولا أنا عابد ما عبدتم} نفي قوله لذلك بالكلية ؛ لأن النفي بالجملة الاسمية آكد ،فكأنه نفي الفعل ،وكونه قابلا لذلك ،ومعناه نفي الوقوع ،ونفي الإمكان الشرعي أيضا ،وهو قول حسن .
واختار الإمام كون ( ما ) في الأولين موصولة ،وفيما بعدهما مصدرية .قال:فمفاد الجملتين الأوليين الاختلاف التام في المعبود ،ومفاد الجملتين الأخريين تمام الاختلاف في العبادة ،فلا معبودنا واحد ،ولا عبادتنا واحدة ؛ لأن معبودي ذلك الإله الواحد المنزه عن الند والشفيع المتعالي عن الظهور في شخص معين الباسط فضله لكل من أخلص له الآخذ قهره بناصية كل من نابذ المبلغين الصادقين عنه ،والذي تعبدونه على خلاف ذلك ،وعبادتي مخلصة لله وحده ،وعبادتكم مشوبة بالشرك ،مصحوبة بالغفلة عن الله تعالى ،فلا تسمى على الحقيقة عبادة ،فأين هي من عبادتي ؟