وقوله سبحانه{ ومن شر غاسق إذا وقب} قال أبو السعود:تخصيص لبعض الشرور بالذكر مع اندراجه قبله لزيادة مساس الحاجة إلى الاستعاذة منه لكثرة وقوعه ،ولأن تعيين المستعاذ منه أذل على الاعتناء بالاستعاذة ،وأدعى إلى الإعادة .وقال الإمام ابن تيمية:وإذا قيل الفلق يعم ويخص ،فبعمومه استعيذ من شر ما خلق ،وبخصوصه للنور النهاري استعيذ من شر غاسق إذا وقب ،فإن الغاسق قد فسر بالليل كقوله{[7591]}{ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} ،وهذا قول أكثر المفسرين وأهل اللغة ،قالوا:ومعنى{ وقب} دخل في كل شيء .قال الزجاج:الغاسق البارد ،وقيل لليل:غاسق ؛ لأنه أبرد من النهار ،وقد روي الترمذي{[7592]} والنسائي عن عائشة"أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر فقال:يا عائشة تعوذي بالله من شره ،فإنه الغاسق إذا وقب "،وروي من حديث أبي هريرة مرفوعا:"الغاسق النجم "،وقال ابن زيد:هو الثريا ،وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها ،وترتفع عند طلوعها ،وهذا المرفوع قد ظن بعض الناس منافاته لمن فسره بالليل ،فجعلوه قولا آخر ،ثم فسروا وقوبه بسكونه .قال ابن قتيبة:ويقال:الغاسق القمر إذا كسف واسود ،ومعنى وقب:دخل في الكسوف ،وهذا ضعيف ،فإن ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعارض بقول غيره ،وهو لا يقول إلا الحق ،وهو لم يأمر عائشة بالاستعاذة منه عند كسوفه ؛ بل مع ظهور ،وقد قال الله تعالى{[7593]}{ وجعلنا الليل والنهار ءايتين فمحونا ءاية الليل وجعلنا ءاية النهار مبصرة} ،فالقمر آية الليل ،وكذلك النجوم إنما تطلع فترى بالليل ،فأمره بالاستعاذة من ذلك أمر بالاستعاذة من آية الليل ودليله وعلامته ،والدليل مستلزم للمدلول ،فإذا كان شر القمر موجودا فشر الليل موجود .وللقمر من التأثير ما ليس لغيره .فتكون الاستعادة من الشر الحاصل عنه أقوى .ويكون هذا كقوله عن المسجد المؤسس على التقوى:"هو مسجدي "،هذا مع أن الآية تتناول مسجد قباء قطعا ،وكذلك قوله عن أهل الكساء:"هؤلاء أهل بيتي "،مع أن القرآن يتناول نساءه ،فالتخصيص لكون المخصوص أولى بالوصف ،فالقمر أحق ما يكون بالاستعاذة ،والليل مظلم منتشر فيه شياطين الإنس والجن ما لا تنتشر بالنهار ،ويجري فيه من أنواع الشر ما لا يجري بالنهار من أنواع الكفر والفسوق والعصيان والسرقة والخيانة والفواحش وغير ذلك ،فالشر دائما مقرون بالظلمة ،ولهذا إنما جعله الله لسكون الآدميين وراحتهم ،لكن شياطين الإنس والجن تفعل فيه من الشر ما لا يمكنها فعله بالنهار ،ويتوسلون بالقمر وبدعوته وعبادته ،وأبو معشر البلخي له ( مصحف القمر ) ،يذكر فيه من الكفريات والسحريات ما يناسب الاستعاذة منه ،انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .