ثم أشار تعالى إلى أن الآية العظمى للنبي صلوات الله عليه ،وهي الآيات النفسية العلمية ،لا الكونية الآفاقية التي كانت لغيره ،جريا على سنة الارتقاء .فإن النوع الإنساني كان ،لما جاء الإسلام قد استعد إلى معرفة الحق من الباطل بالبرهان ،والتمييز بين الخير والشر بالدليل والحجة .وكان لا بد له في هذا الطور من معلم ومرشد ،كما في الأطوار الأخرى ،أرسل الله إليه رسولا يهديه إلى طرق النظر والاستدلال ،ويأمره بأن يرفض التقليد البحت والتسليم الأعمى .وأن لا يأخذ شيئا إلا بدليل وبرهان ،يوصل إلى العلم .فكانت عمدته صلى الله عليه وسلم في الاستدلال على نبوته ورسالته نفسه الكريمة ،وما جاء به من النور والهدى ،كالطبيب الذي يستدل على إتقانه صناعة الطب ،بما يبديه من العلم والعمل الناجح فيها .وقد بسط هذا في مواضعه .وهذا معنى قوله تعالى:{ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .
{ قُلْ} أي لهؤلاء الجاحدين:قد مضى دور الخوارق التي تقترحونها ،ونسخ تعالى من تلك الآيات بما أتى بخير منها ،وهو آية الهداية التي تصلح بها قلوب العالمين .والذكرى التي تزع النفوس عن الشر ،وتحملها على الخير .بحيث يظهر أثرها الحسن في المؤمنين ،ويحق الشقاء على الجاحدين المعاندين .فإن يك هذا سحرا ،ولديكم ما هو أهدى{ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا} أي من التوراة والقرآن{ أَتَّبِعْهُ} أي ولا أعاندكم مثل ما تعاندونني{ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي في أنهما سحران مختلفان .أو في أنه يمكن الإتيان بما هو أهدى منهما .
قال أبو السعود:ومثل هذا الشرط مما يأتي به من يدل بوضوح حجته وسنوح محجته لأن الإتيان بما هو أهدى من الكتابين ،أمر بين الاستحالة .فيوسع دائرة الكلام للتبكيت والإفحام .انتهى .
أي لا للشك والتردد .
قال الشهاب:وهذا جواب عما يقال أن عدم إتيانهم به معلوم .وهذا كما يقول المدل:إن كنت صديقك القديم ،فعاملني بالجهل .وكذا في إيراد كلمة ( إن ) مع امتناع صدقهم ،نوع تهكم بهم .