{ ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون} أي:فإن إخباره عن محاورة الملائكة وما جرى بينهم ،على ما ورد في الكتب المتقدمة ،من غير سماع ومطالعة كتاب ،لا يتصور إلا بالوحي .
قال القشانيّ:وفرق بين اختصام الملإ الأعلى واختصام أهل النار بقوله في تخاصم أهل النار{ إن ذلك لحق} وفي اختصام الملإ الأعلى{ إذ يختصمون} لأن ذلك حقيقي لا ينتهي إلى الوفاق أبدا .وهذا عارضيّ نشأ من عدم اطلاعهم على كمال آدم عليه السلام ،الذي هو فوق كمالاتهم .وانتهى إلى الوفاق عند قولهم:{ سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا} وقوله تعالى:{ ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض} على ما ذكر في البقرة عند تأويل هذه القصة .انتهى .
وبالجملة . فالاختصام المذكور في الآية ،هو المشار إليه في قوله تعالى:{ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} قال الرازي:وهو أحسن ما قيل فيه .
ثم قال:ولو قيل:كيف جازت مخاصمة الملائكة معه تعالى ؟ قلنا:لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب .وذلك يشابه المخاصمة والمناظرة .والمشابهة علة لجواز المجاز .فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه .انتهى .
وملخصه:أن{ يختصمون} استعارة تبعية ل ( يتقاولون ) .وقيل:معنى الآية نفي علم الغيب عنه صلى الله عليه وسلم ورد اقتراحهم عليه أن يخبرهم بما يحدث في الملأ الأعلى من التخاصم ،كقوله تعالى:{ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب} وقوله:{ قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين} ولذا قال بعد:{ إن يوحى إليّ إلا أنما أنا نذير مبين} .
قدمنا أن أكثر المفسرين على تأويل الاختصام بالتقاول في شأن آدم عليه السلام مع الملائكة .وقيل:مخاصمتهم مناظرتهم بينهم في استنباط العلم .كما تجري المناظرة بين أهل العلم في الأرض .حكاه الكرمانيّ في ( عجائبه ) .
وذهب ابن كثير إلى أنه عنى به ما كان في شأن آدم عليه السلام ،وامتناع إبليس من السجود له ،ومحاجته ربه في تفضيله عليه .وإن قوله تعالى:بعد{ وإذ قال ربك} تفسير له .ولم أره مأثورا عن أحد .بل المأثور عن ابن عباس وغيره ما تقدم ،من أنه في شأن آدم والملائكة .وهذا كله على إثبات علم التخاصم بالوحي .بتقدير ( ما كان لي من علم لولا الوحي ) ولا تنس القول الآخر .والنظم الكريم يصدق على الكل بلا تناف .والله أعلم .
وقد جاء ذكر تخاصم الملإ الأعلى في حديث أخرجه الإمام أحمدعن معاذ رضي الله عنه قال:( احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح .حتى كدنا نتراءى قرن الشمس .فخرج صلى الله عليه وسلم سريعا .فثوّب بالصلاة .فصلى وتجوز في صلاته .فلما سلم قال صلى الله عليه وسلم:كما أنتم .ثم أقبل إلينا فقال:إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي .فنعست في صلاتي حتى استيقظت .فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة .فقال:يا محمد! أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت:لا أدري ،يا رب! أعادها ثلاثا .فرأيته وضع كفه بين كتفيّ حتى وجدت برد أنامله بين صدري .فتجلى لي كل شيء وعرفت .فقال:يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى .قلت:في الكفارات .قال:وما الكفارات ؟ قلت:نقل الأقدام إلى الجماعات ،والجلوس في المساجد بعد الصلوات ،وإسباغ الوضوء عند الكريهات .قال:وما الدرجات ؟ قلت:إطعام الطعام ،ولين الكلام ،والصلاة والناس نيام .قال:سل .قلت:اللهم! إني أسالك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني .وإذا أردتفتنة بقوم ،فتوفني غير مفتون .وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك .وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إنها حق فادرسوها وتعلموها ) .
قال ابن كثير:هذا حديث المنام المشهور .ومن جعله يقظة فقد غلط .وهو في ( السنن ) من طرق .وهذا الحديث بعينه قد رواه الترمذيمن حديث جهضم بن عبد الله اليماميّ به ،وقال:حسن صحيح .
قال ابن كثير:وليس هذا الاختصام المذكور في القرآن .فإن هذا قد فسر .وأما الاختصام الذي في القرآن فقد فسر بعد هذا .انتهى .