ثم أراد أن يقطع الشبهة من نفسه ،ويبعد عنه استغراب أن يقرأ ولم يكن قارئا فقال:{ علم الإنسان ما لم يعلم} أي إن الذي صدر أمره بأن تكون قارئا ،وأوجد فيك ملكة القراءة والتلاوة ،وسيبلغك فيها مبلغالم يبلغه سواك ،هو الذي علم الإنسان جميع ما هو متمتع به من العلم ،وكان في بدء خلقه لا يعلم شيئا ،فهل يستغرب من هذا المعلم الذي ابتدأ العلم للإنسان ولم يكن سبق له علم بالمرة أن يعلمك القراءة وعندك كثير من العلوم سواها ،ونفسك مستعدة بها لقبول غيرها ؟ انتهى .
تنبيهات:
الأول ما قال الإمام ابن القيم في ( مفتاح دار السعادة ) في مباحث عجائب الإنسان ،وما في خلقه من الحكم:ثم تأمل نعمة الله على الإنسان بالبيانين:البيان النطقي والبيان الخطي ،وقد اعتد بهما سبحانه في جملة ما اعتد به من نعمه على العبد ،فقال في أول سورة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم{ اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} فتأمل كيف جمع في هذه الكلمات مراتب الخلق كلها ،وكيف تضمنت مراتب الوجودات الأربعة بأوجز لفظ وأوضحه وأحسنه ،فذكر أولا عموم الخلق - وهو إعطاء الوجود الخارجي - ثم ذكر ثانيا خصوص خلق الإنسان ؛ لأنه موضع العبرة ،والآية فيه عظيمة ،ومن شهوده عما فيه محض تعدد النعم ،وذكر مادة خلقه ههنا من العلقة ،وفي سائر المواضع يذكر ما هو سابق عليها ،أما مادة الأصل - وهو التراب والطين أو الصلصال الذي كالفخار - أو مادة الفرع - وهو الماء المهين ، وذكر في هذا الموضع أول مبادىء تعلق التخليق وهو العلقة - فإنه كان قبلها نطفة ،فأول انتقالها إنما هو إلى العلقة ،ثم ذكر ثالثا التعليم بالقلم الذي هو من أعظم نعمه على عباده ؛ إذ به تخلد العلوم ،وتثبت الحقوق ،وتعلم الوصايا ،وتحفظ الشهادات ،ويضبط حساب المعاملات الواقعة بين الناس ،وبه تقيد أخبار الماضين للباقين اللاحقين ،ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض ،ودرست السنن ،وتخبطت الأحكام ،ولم يعرف الخلف مذاهب السلف ،وكان معظم الخلل الداخل على الناس في دينهم ودنياهم إنما يعتريهم من النسيان الذي يمحو صور العلم من قلوبهم ،فجعل لهم الكتاب وعاء حافظا للعلم من الضياع كالأوعية التي تحفظ الأمتعة من الذهاب والبطلان ،فنعمة الله عز وجل بتعليم القلم بعد القرآن من أجل النعم ،والتعليم به وإن كان مما يخلص إليه الإنسان بالفطنة والحيلة ،فإن الذي بلغ به ذلك وأوصله إليه عطية وهبها الله منه ،وفضل أعطاه الله إياه ،وزيادة في خلقه وفضله ،فهو الذي علمه الكتابة ،وإن كان هو المتعلم ،ففعله فعل مطاوع لتعليم الذي علم بالقلم ،فإنه علمه فتعلم ،كما أنه علمه الكلام فتكلم هذا ،ومن أعطاه الذهن الذي يعي به ،واللسان الذي يترجم به ،والبنان الذي يحط به ،ومن هيأ ذهنه لقبول هذا التعليم دون سائر الحيوانات ،ومن الذي أنطق لسانه ،وحرك بنانه ،ومن الذي دعم البنان بالكف ،ودعم الكف بالساعد ،فكم لله من آية نحن غافلون عنها في التعليم بالقلم ،فقف وقفة في حال الكتابة ،وتأمل حالك وقد أمسكت القلم وهو جماد ،وضعته على القرطاس وهو جماد ،فتولد من بينهما أنواع الحكم ،وأصناف العلوم ،وفنون المراسلات والخطب والنظم والنثر ،وجوابات المسائل ،فمن الذي أجرى فلك المعاني على قلبك ،ورسمها في ذهنك ،ثم أجرى العبارات الدالة عليها على لسانك ،ثم حرك بها بنانك حتى صار نقشا عجيبا معناه أعجب من صورته ،فتقضي به مآربك ،وتبلغ به حاجة في صدرك ،وترسله إلى الأقطار النائية والجهات المتباعدة ،فيقوم مقامك ويترجم عنك ،ويتكلم على لسانك ،ويقوم مقام رسولك ،ويجدي عليك ما لا يجدي من ترسله سوى من علم بالقرآن ما لم تعلم ؟
والتعليم بالقلم يستلزم المراتب الثلاثة:مرتبة الوجود الذهني ،والوجود اللفظي ،والوجود الرسمي ،فقد دل التعليم بالقلم على أنه سبحانه هو المعطي لهذه المراتب ،ودل قوله{ خلق} على أنه يعطي الوجود العيني ،فدلت هذه الآيات مع اختصارها ووجازتها وفصاحتها على أن مراتب الوجود بأسرها مسندة إليه تعالى خلقا وتعليما ،وذكر خلقين وتعليمين:خلقا عاما وخلقا خاصا ،وتعليما خاصا وتعليما عاما ،وذكر من صفاته ههنا اسم{ الأكرم} الذي هو فيه كل خير وكل كمال ،فله كل كمال وصفا ،ومنه كل خير فعلا ،فهو{ الأكرم} في ذاته وأوصافه وأفعاله ،وهذا الخلق والتعليم إنما نشأ من كرمه وبره وإحسانه لا من حاجة دعته إلى ذلك وهو الغني الحميد .
الثاني قال الإمام:لا يوجد بيان أبرع ولا دليل أقطع على فضل القراءة والكتابة والعلم بجميع أنواعه من افتتاح الله بكتابه ،وابتدائه الوحي بهذه الآيات الباهرات ،فإن لم يهتد المسلمون بهذا الهدى ،ولم ينبههم النظر فيه إلى النهوض إلى تمزيق تلك الحجب التي حجبت عن أبصارهم نور العلم ،وكسر تلك الأبواب التي غلقها عليها رؤساؤهم ،وحبسوهم بها في ظلمات من الجهل ،وإن لم يسترشدوا بفاتحة هذا الكتاب المبين ،وإن لم يستضيئوا بهذا الضياء الساطع ،فلا أرشدهم الله أبدا .
الثالث قال الرازي:في قوله{ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق} إشارة إلى الدلالة العقلية الدالة على كمال القدرة والحكمة والعلم والرحمة ،وفي قوله{ الذي علم بالقلم} إشارة إلى الأحكام المكتوبة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالسمع ،فالأول كأنه إشارة إلى معرفة الربوبية ،والثاني إلى النبوة ،وقدم الأول على الثاني تنبيها على أن معرفة الربوبية غنية عن النبوة ،وأما النبوة فإنها محتاجة إلى معرفة الربوبية .