{ فما يكذبك بعد بالدين} يعني بعد هذه الحجج ،ومحال أن يحتج على قوم كانوا منكرين معنى من المعاني بما كانوا له منكرين ،وإنما الحجة على كل قوم بما لا يقدرون على دفعه مما يعاينونه ويحسونه أو يقرون به ،وإن لم يكونوا له محسين ،وإذ كان ذلك كذلك وكان القوم للنار التي كان الله يتوعدهم بها في الآخرة منكرين ،وكانوا أهل الهرم والخوف من بعد الشباب والجلد شاهدين ،علم أنه إنما احتج عليهم بما كانوا له معاينين من تصريفه خلقه ونقله إياهم من حال التقويم الحسن والثياب والجلد إلى الهرم والضعف وفناء العمر وحدوث الخرف انتهى كلامه .
وعليه فيكون الاستثناء منقطعا استدراكا لدفع ما يتوهم من أن التساوي في أرذل العمر يقتضي التساوي في غيره ويكون{ الذين} حينئذ مبتدأ والفاء داخلة في خبره ،وأما على الوجه الأول فالفاء للتفريع ،ومدخولها جملة مترتبة عليه ومؤكدة له .قوله تعالى:{ فما يكذبك بعد بالدين} خطاب للإنسان على طريق الالتفات لتشديد التوبيخ والتبكيت ،أي فما يحملك على التكذيب بالدين أي الجزاء بعد البعث وإنكاره بعد هذه الدلائل ،والمعنى:إن خلق الإنسان من نطفة ،وتقويمه بشرا سويا ،وتحويله من حال إلى حال كمالا ونقصانا من أوضح الدلائل على قدرة الله عز وجل على البعث والجزاء ،فأي شيء يضطرك إلى التكذيب به ؟ وجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ومعنى{ يكذبك} إما ينسبك إلى الكذب ( كفسقته إذا قلت له إنه فاسق ) والباء في{ بالدين} بمعنى ( في ) أي يكذبك في إخبارك به ،أو سببية أي بسبب إخبارك به وإثباته ،أو المعنى ما يجعلك مكذبا بالدين ،على أن الباء صلته ،وهو من باب الإلهاب والتعريض بالمكذبين ،والمعنى:إنه لا يكذبك شيء ما بعد هذا البيان بالدين لا كهؤلاء الذين لا يبالون بآيات الله ولا يرفعون لها رأسا ،والاستفهام للإنكار والتعجب .واستصوب ابن جرير{[7515]} قول من قال:( ما ) بمعنى ( من ) ،أي فمن يكذبك يا محمد بعد الذي جاءك من هذا البيان من الله بالدين ؟
قال الشهاب:( فما ) استفهام عمن يعقل ،وفيه نظر ؛ لأنه خلاف المعروف ،فلا يرتكب مع صحة بقائها على أصلها كما بيناه لك ،والداعي لارتكاب هذا أن المعنى عليه أظهر إذا كان المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم ،فإنه إنكار توبيخي للمكذبين له صلى الله عليه وسلم بعد ما ظهر لهم من دلائل صدقه وصحة مدعاه .